بقلم:غزال أبو ريا
تُعدّ القيادة من أهم القيم الإنسانية التي تقوم عليها المجتمعات الناجحة، فهي ليست منصبًا إداريًا ولا لقبًا اجتماعيًا، بل سلوكًا واعيًا ومسؤولية أخلاقية وقدرة على التأثير الإيجابي في الآخرين. وفي زمن تتكاثر فيه المسميات القيادية، تبرز الحاجة الماسّة إلى إعادة تعريف مفهوم القيادة الحقيقية بعيدًا عن السيطرة والفرض.

يُقال: يمكنك أن تقود الحصان إلى الماء، لكنك لا تستطيع أن تُجبره على الشرب، وهي حكمة تختصر جوهر القيادة؛ فالقائد لا يصنع القناعة بالقوة، بل يزرعها بالقدوة والفهم. وامتحان القائد الحقيقي أن يُبقي في نفوس من يقودهم الرغبة والاقتناع بمواصلة الطريق، لا الخوف ولا الإكراه.

القائد الحقيقي لا يسير أمام الناس ليُظهر ذاته، بل يكشف لهم الطريق، ويمنحهم الثقة للسير فيه. فكل إنسان يستطيع أن يمسك مقود السفينة عندما يكون البحر هادئًا، لكن القادة الحقيقيين يُعرفون في لحظات العاصفة، حين تتطلب المرحلة شجاعة القرار، ووضوح الرؤية، وتحمل المسؤولية.

ومن أبرز سمات القيادة الصادقة الجرأة في الاعتراف بالخطأ. فالقائد الذي يقول: «فشلتُ» ويتحمل المسؤولية، أقوى وأصدق من قائد يختبئ خلف عبارة «فشلنا». الاعتراف بالخطأ لا يُضعف القائد، بل يعزز مكانته الأخلاقية ويكسبه احترام من حوله، ويحوّل الفشل إلى فرصة للتعلم والنهوض.

وتتجلى هذه القيمة في حادثة معبّرة، حين فشل مشروع مهم في إحدى المؤسسات، فجمع القائد فريقه وأعلن تحمّله الكامل للمسؤولية دون تبرير أو تهرّب. هذا الموقف أعاد الثقة للعاملين، وبث فيهم روح المبادرة من جديد، فتحوّل الإحباط إلى دافع للعمل المشترك وتصحيح المسار.

القيادة أيضًا ليست تحكمًا بالآخرين، فلا يحق لأي إنسان أن يفرض سيطرته على غيره. ومن أراد قيادة الناس، عليه أن يبدأ بقيادة نفسه وضبط سلوكه وأفعاله. فحين يقول القائد للناس «الحقوا»، عليه أولًا أن يُشير بوضوح إلى الطريق، وأن يكون في مقدمة السائرين إليه.

وفي المجال التربوي تتجلّى القيادة بأوضح صورها، إذ يتأثر الطلاب بسلوك المعلّم القائد أكثر من تأثرهم بأقواله. وتُروى حادثة لمعلّم واجه حالة من التراخي وعدم الانضباط بين طلابه، فاختار أن يُغيّر الواقع بالقدوة لا بالمواعظ. التزم بالوقت، واحترم النظام، وتعامل بإنسانية وعدل، فانعكس ذلك تدريجيًا على سلوك الطلاب، وأصبح الانضباط ثقافة لا فرضًا.

نعيش اليوم أزمة قيادة حقيقية، ليست في نقص القادة، بل في غياب المعنى الأخلاقي للقيادة. فالقيادة الحقيقية تفكير إيجابي، وزرع للأمل من خلال العمل، لا صناعة لليأس أو الإحباط. وهي مطلوبة في كل الميادين: قائد تربوي، قائد سياسي، قائد ديني، قائد عمالي، وقائد اجتماعي، لكن جوهر القيادة يبقى واحدًا في جميع المجالات.

في الختام، يمكن القول إن القيادة الحقيقية مسؤولية قبل أن تكون سلطة، ورسالة خدمة قبل أن تكون موقعًا، وقدرة على إلهام الآخرين لا التحكم بهم. فحيثما وُجدت القدوة، والصدق، وتحمل المسؤولية، وُجدت القيادة التي تبني الإنسان والمجتمع.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]