بقلم: رانية مرجية
ليست كل امرأة قادرة على أن تكتب وطنًا،
ولا كل كاتبة قادرة على أن تجعل الحبرَ يكتسب هوية،
لكن رولا خالد غانم — تلك القادمة من نبض طولكرم — فعلت الأمرين معًا.
كتبت فلسطين كما تُكتب القصيدة: من وجعٍ نقيّ، من ذاكرةٍ تنزف، ومن حبٍّ يتجاوز الجغرافيا إلى ما هو أعمق — الهوية كوجود، والانتماء كقدر.
ما بين الجرح والورق: امرأة تكتبنا جميعًا.
رولا غانم لا تكتب لتُرضي القارئ، بل لتوقظه.
إنها لا تضع اللغة في خدمة الحكاية، بل تجعل الحكاية امتحانًا للغة ذاتها.
في رواياتها، يتقاطع التاريخ بالشخصي، والوطني بالنسوي، والوجع بالكرامة.
بطلاتها لا يشبهن نساء الأساطير، بل نساء الحارات الفلسطينية اللواتي يخبزن الخبز على الجمر ويغزلن الحكايات على شرفات الانتظار.
في روايتها "المخاض"، تنفجر الحياة من رحم المعاناة. لا تكتب عن الولادة البيولوجية فقط، بل عن ولادة الوعي والذاكرة.
كل شخصية فيها هي مرآة لفلسطين — تلك التي تُنجب أبناءها من الألم وتعيدهم إلى الأمل.
أما في "الظل الأبيض"، فتغدو الرواية تأملاً فلسفيًا في الذاكرة، في حدود الإنسان حين يكون ظله أثقل من جسده، وفي معنى الحرية حين تُحاصر الروح داخل جدارٍ من غياب.
كتابات رولا ليست حكايات تُروى، بل أسئلة تُطرح على ضمير القارئ:
هل يمكن للحقيقة أن تُشفى من الوجع؟
هل يمكن للحب أن ينجو من الحرب؟
وهل يمكن لفلسطين أن تستمر إذا لم نكتبها في وجداننا كل يوم؟
كتارا… حين تلتقي الرواية بالخلود
حين فازت الدكتورة رولا غانم بجائزة كتارا للرواية العربية، لم يكن ذلك تكريمًا لعمل أدبي فحسب، بل اعترافًا بمدرسة فكرية جديدة تتكوّن في فلسطين — مدرسة تُعيد تعريف الأدب بوصفه مقاومة فكرية.
جاء فوزها كإضاءة في زمنٍ عربيٍّ يزداد عتمة، وكأن كتارا وجدت ضالتها في نصٍّ لا يُهادن ولا يُساوم، نصٍّ يعرّي الوجع ولا يخشى أن يقول الحقيقة.
لقد كتبت رولا في روايتها الفائزة عن فلسطين لا بوصفها مكانًا، بل بوصفها كائنًا حيًا يتنفس بالحبر، ويختزن في ذاكرته خيبات البشر وانتصارات الأرض.
كتبت عن المقهورين الذين ما زالوا يحلمون، وعن أولئك الذين يصنعون من الرماد حياة.
وفي ذلك، جعلت من الأدب أرشيفًا إنسانيًا للكرامة.
فلسطين في عينيها ليست جغرافيا… بل ذاكرة
تستطيع رولا أن تجعل القارئ يلمس فلسطين دون أن يسافر إليها.
في لغتها عطرُ ترابٍ بعد المطر، وفي استعاراتها نحيبُ أمٍّ فقدت ولدها لكنها ما زالت تُعدّ له الطعام.
هي تُعيد إلينا الوطن بوجهه الإنساني لا السياسي، بدموعه لا بخطاباته.
ولهذا، حين تقرأ أعمالها، تدرك أن فلسطين الحقيقية ليست تلك المرسومة على الخرائط، بل تلك التي تسكن القصص والحروف والأحلام.
المرأة التي تحمل الوطن في حقيبة قلبها
رولا غانم ليست روائية فقط، بل أستاذة في الحياة والفكر.
تعلم أن الحرف مسؤولية، وأن التعليم رسالة لا وظيفة.
طلابها لا يخرجون من قاعاتها بشهادات فقط، بل بإيمانٍ بأن الحلم الفلسطيني لا يموت.
هي تؤمن أن الأنثى ليست نصف المجتمع كما يقال، بل هي كلّه حين تختار أن تكتب، أن تعلّم، وأن تحبّ دون خوف.
حين صعدت المنصّة لتُكرَّم في بلدية طولكرم برعاية المحافظ اللواء الدكتور عبد الله كميل، لم تكن مجرد امرأة تُصفّق لها الأيدي،
بل رمزًا يُصفّق له التاريخ.
كانت لحظة تُعيد تعريف التكريم ذاته: أن يُكرَّم النور في زمن العتمة، وأن يُكرَّم الفكر في زمن التبعية، وأن يُكرَّم الجمال في زمن القبح.
بين الأدب والوطن… ميلاد فكرة
رولا غانم تمثل الجيل الجديد من المفكرين العرب الذين لا يفصلون بين الأدب والموقف.
هي لا تكتب لتتجمّل، بل لتُحدث أثرًا.
وحين نقرأها، لا نقرأ نصًا فقط، بل نسمع فلسطين تتحدث بلسان امرأة تعرف أن الحرية تبدأ من الحرف.
لذلك لا غرابة أن يقول القرّاء عن رواياتها إنها “أمكنة للبوح”، وإن صوتها الأدبي يشبه صلاةً تُقال عند الفجر، هادئة لكنها لا تُنسى.
كلمة أخيرة
في زمنٍ تهاجر فيه القيم كما تهاجر الطيور، تبقى رولا غانم ثابتة في سماء الأدب كغيمةٍ لا تعرف التصحر.
هي ابنة فلسطين التي لم تختر الكتابة ترفًا، بل اختارتها نجاةً.
وكل جائزةٍ تنالها ليست تكريمًا لشخصها، بل تكريمًا لروحٍ جماعية فلسطينية تصرّ أن تبقى حيّة رغم كل شيء.
[email protected]
أضف تعليق