محاولة عَصْف ذهني حول قَالوا وقُلْنا:
قالت:- أمَا زِلْتَ ضِدّ التّيّار؟
قلت:- أيّ تيّار تقصدين فالتّيّارات كثيرة؟
قالت:- التيّار الذي تسبح باتّجاهه الأسماك.
قلت:- هنالك أسماك تسبح مع التّيّار وأخرى ضِدّ التّيّار.
قالت:- وما الفرق؟
قلت:- من الممكن أن يكون السَّمك السَّابح مع التّيّار حيّاً، ومن الممكن أن يكون ميتاً،
فمهمة التّيّار أن يكون جارفاً.
قالت:- وضِّح لو سمحت.
قلت:- الحِدِق يفهم.
قالت:- أتَتَّهمني بعدم الحداقة؟
قلت:- لم أكمل الـمَثَل، فَرُبَّما يكون السَّمك السّابح مع التّيّار ميتاً أو حيّاً، ولكن من
المؤكد مائة بالمائة أنّ كلّ السّمك السّابح ضِدّ التيّار هو حيّ.
قالت:- ولماذا تفضّل السّباحة ضِدّ الّتيّار؟
قلت:- خوفاً من أنْ أُعَدّ من الميّتين، بينما أنا ما زلت على قيد الحياة، وأنا أفضّل الحياة
والحيويّة ما دمتُ حيّاً.
قالت:- الآن فهمت.
قلت:- يحيا الذكاء.
قالت:- ولكنّ الأكثريّة تسير مع التّيّار السّائد.
قلت:- وهل هم حَقّانيّون؟
قالت:- ليس مُهِمّاً إن كانوا حقّانيّين ام ظالمين ام معتدلين.
قلت:- وكيف تستوي كل هذه "اللامُهِمّات" (من كلمة مهمّ) وتلتقي في نفس التّيّار؟
قالت:- على الأقل فهذه هي أسهل الطّرق، فالانجراف مع التّيّار الجاري السّائد آمَنُ من
السّباحة ضدّه.
قلت:- مَن لا يجيد السّباحة والتّحدّي وبذل المجهود الإضافي لا بدّ أنْ يتشبّث ويتعلّق
بأجساد الذين يجرفهم تيّاركِ. أنا أُفضّل التّيّار الحقّاني.
قالت:- إذن أنت تُغامر وتجازِف، فَأَنتَ هكذا تَسبح ضِدّ التّيّار الـمُهَيمن. في التّيّار الجارف
الحالي فالأكثريّة الآن تسبح وتستفيد. لماذا تحرم نفسك من خيرات التَّيَّار كما ينعم الآخرون؟ ألا زلت تؤمن بالنّضال وتحدّي المؤسَّسَة؟
قلت:- إذن هل أنتِ تقصدين أنّ التّيّار السّائد هو تيّار المؤسّسة واللانضال؟
قالت:- أنت تجرفني لأتحدّث في السّياسة.
قلت:- إذن انتِ مقتنعة بأنّني تيّار جارف ضِدّ التّيّار السّائد.
قالت:- انت تحرم نفسك وأولادك من نعمة المؤسّسة الكريمة التي تُغدق العطاء بدون
شروط، فلماذا لا تساير قليلاً، فتكسب حصّتك كالآخرين من مالها، فتعيش وعائلتك في هذا العمر القصير برغدٍ وهدأة بال؟ وهل تظنّ أنّ تيّارك سيُصبح هو السّائد أمام هذا الانفتاح العظيم الذي أحدثه انفجار السَّدّ الأخير، وانْهيار السُّور بين نهر الاحتلال ونهر الشّعب المغلوب على أمره، وانْهيار سور برلين وانبعاث سور بديل له، ألَا وهو السّور الواقي من "إرهاب الفلسطينيّين" على حدّ قول الصّهاينة الذين شَيَّدوه؟
قلت:- الحمد لله أنّك اعترفتِ بأنّ هنالك شعب، وأنّه مغلوب على أمره.
قالت:- ولكنّه لا يقرّر في شيء، ولا يملك سُلطة قويّة كما الحكّام والمؤسّسات.
قلت:- ألهذا السّبب تطالبينني بأنْ أضع رأسي بين الرؤوس وأقول أينَ أنتَ يا قَطّاَع الرؤوس،
ويا مخرّب بيت العرب والرُّوس؟
قالت:- إسرائيل وأمريكا هما القوّتان اللتان لا تُغْلَبان الآن، وما دمنا لا نستطيع تحدّيهما
على طريقة الشّعارات التي اعتدنا عليها سابقاً فلنسلِّم بأمرهما الواقع.
قلت:- ولكنّني أتعامل مع الإبداع، وبِخاصّة الإبداع المسرحي، وأساسه الدّفاع عن الإنسان
والأخلاق والحضارة، ونبذ الظّلم والاحتلال، فهل تريدينني أنْ أتنازل عن مهنتي أو أنْ أصبح شاعرَ بلاط؟
قالت:- على الأقلّ أظهِر بعض المهادنة للمؤسّسة كي تُمشِّي أمورك الشّخصيّة.
قلت:- كيف أستطيع أنْ أُحوّل مشكلتي الى مشكلة شخصيَّة وأنا مرتبط بصلة الرّحم مع
عائلتي وبلدي وشعبي؟
قالت:- ولكنّك وحيد في السّاحة.
قلت:- جماعة تيّاري أقلّية، وهكذا كان الأمر عبر تاريخ البشَريَّة، فالنّاس الذين يَتشبَّثُون
بمبادئهم هم قلائل ومستعدون للدّفاع عنها ما داموا على قيد الحياة، وهم في النِّهاية ضمير الإنسانيَّة وبُناةُ حضاراتها. فالذين انجرفوا في تيّار الكنيسة زمن "چَاليليو" كانوا على خطأ لمدّة خمسين سنة وهم الأكثريّة السّاحقة، بينما هو والأقليّة الضّئيلة ممّن آمنوا معه كانوا على حقّ بأنّ الأرض ليست مركز الكون وأنّها هي التي تدور حول الشمس وليس العكس، ، وأن سلطة الكنيسة ومَن تبعها كانوا على خطأ، فرضخت الأكثريّة لرأي السلطة الدينيّة، ، وساروا مع التّيّار السّائد والظّالم والقامع للإبداع والكشف العلمي وتطوّر الإنسانيَّة. هههه من المضحِك أنّه الى يومنا هذا يوجد مَن لا يزال يعِظ بأنّ الأرض مُسطّحة وليست كُرَويَّة.
قالت:- وماذا يفيد إنْ عنَّد السّيد "چَاليليو" بأنّ الأرض ليست مركز الكون وأنّها تدور،
وبالمقابل فالعقاب هو الإعدام؟
قلت:- أن تقولي، لا يعني أنّك موجودة، وأنْ لا تقولي شيئاً وتبقين هامشيّة، وحياتك بدون
قيم ومباديء، فسِيّان وجودك وعدم وجودك.
قالت:- يبدو أنّك تُفضّل أنْ تُتعب تفكيرك ونفسك وتَنْسى أنْ تعيش حياتك بسهولة.
قلت:- ولكن الصّعوبة لا أخلقها أنا، بل التّيّار السّائد والجارف، وهو الذي يُتعِبني ويقضّ
مضجعي، ولولاه لحظيت بهدأة البال التي حُرِمتُ منها. ثم من قال لكِ إنّ جميع المجروفين في التّيّار السّائد يعيشون في بحبوحة وسعادة؟ ألَا ترين أنّهم يسيرون مع التّيّار لأنّهم يؤمنون بأنّهم هكذا يحصلون على مصالحهم الشَّخصيَّة، والحقيقة الواضحة تقول إنّ معظمهم لا يحصلون على هذه الـمَصالح، أو أنّ غشاوة غطّت أعينهم عن الحقيقة، فاقتنعوا بخطّ السّيِّد السّائد الظّالم، وهو في النِّهاية ظالمهم؟
قالت:- أنا أقدِّر قدرتك على تحمّل مثل هذا الطّريق، ولكنّني أنا شخصيّاً لا أستطيع أنْ
أسلكه.
قلت:- من يعي القضيّة التي يؤمن بها فتصبح همَّه ويصبح همَّها، لا بدّ أنْ يكون عادلاً ولا
بدّ أنّ الأكثريّة ستُشحَن من طاقات إبداعاته ومبادئه.
قالت:- لقد تعبت من هذا النّقاش. دعنا نعود الى أعمالنا ومصالحنا ولننتظر ماذا سيخطط
لنا الأقوياء.
قلت:- ألَا يوجد لديكِ أيّة خُطّة؟
قالت:- لا
قلت:- وهل تشعرين أنّك هامشيّة؟
قالت:- نعم.
قلت:- ألّا ترين أنّ التّيّار السّائد هو اللامبالاة واللاتَدخُّل واللامُشاركة واللاتَأثِير واللاتاثُّر
واللاتَغيير؟ فالأكثريّة ترى أناساً يُقتلون ظُلماً، ويُسرقون ويُعذّبون من أبناء شعبهم أو من أبناء بلدهم، فيقول كلٌّ منهم على حدة: فَلْأَسْلَم أنَا وليَذْهب الآخرون الى الجحيم. ألَا تَرَين أنّ المؤسّسة نجحت بأنْ تجعل الأكثريّة قطعاناً من النّاس الهامشيّين، وراحت تنفّذ كل مخطّطاتها مهما كانت ظالمة بدون رادع يردعها؟
قالت:- ولكنّ العالم الحرّ الجديد أجمل بكثير ممّا تتخيّله.
قلت:- هو جميل جِدّاً بالنّسبة للأقلّيّة الـمُنتفعة، وأمّا الأكثريّة فهي مسلوبة الإرادة بإرادتها
قالت:- كلامُكَ هذا يهدّد مصالحي الشّخصيّة. دعني أعود الى عملي.
قلت:- لن أكون أنَا هو المبادر الى قطع أرزاق النّاس، فَمُدَبِّرو تيَّارِك السّائد ومُخطِّطُوه، وهم
قلائل، هم الذين يبادرون، إن عاجلاً ام آجلاً، الى قطع أرزاق الأكثريّة ونهْب خيراتها، وهم الذين بطمعهم اللامحدود سيملؤون العالم بالمزيد من المآسي والمصائب.
قالت:- أَضْحِكِ النّاس وانسِهِمْ همومهم من خلال مسرحك، وسوف ترى كيف سيتدفّقون
الى عروضك، وستربح من مدخول التّذاكر ومن دعم المؤسَّسة.
قلت:- أنا أريد أنْ أخفّف عنهم همومهم وأسلّيهم، وأنا لا أمانع من تسليتهم وإسعادهم في
عروضي، ولكنّني لستُ مستعدّا بأنْ أزيد في تخديرهم، فالإضحاك مفيد للقلب، ولكنّه غير كافٍ، لأنّ كثرته من دون سبب ستقود الى قلّة الأدب. أفضِّل أن أُضحكهم على طريقتي لكي أسلّيهم وربّما لكي أصدمهم، فمن جهة أكون مداوياً لقلوبهم، ومن جهة أخرى أكون مُصحّياً لعقولهم.
قالت:- فَلْيعيشوا مخدَّرين أسهل من أنْ يعرفوا واقعهم التَّعيس فينتحرون.
قلت:- هذا حلٌّ كسول شبيه بالـمَثَل القائل "يا طُخُّه يا اكسر مخُّه".
قالت:- يا زلمة انت حامل همّ الدّنيا عَلى اكتافك. يا اخي عِش وانبسط وليُضرب بطرس
وسخوله.
قلت:- أخاف إن خفّفت حملي عن كاهلي أنْ أنقرض وأنَا على قيد الحياة.
قالت:- أترُكْ هذه المهمّة لغيرك، فلماذا تسمح لنفسك بأن تكون كبش فداء؟
قلت:- ولكنّ غيري الذين يقومون بالمهمّة هم جماعتي، فكيف تطلبين منّي أنْ أخونهم
وأرواحهم معلّقة بروحي وروحي معلّقة بأرواحهم؟ هم أقلّيّة فعلاً ولكنّهم كُتلة وهم في طريقهم الى الازدياد، وأمّا جماعة تيّارِك فَهُم كثر جِدّاً، ولكنّهم قليلو البرَكَة وكلٌّ يُغَنِّي على ليلاه، بينما جماعتنا يُغنّون أغنية جماعيّة وبروح واحدة، وفي ذلك أكثر أطمئناناً وأماناً وإيماناً. ألَا ترين أننا أقلّيّة ولكنّنا نشعر بالأمان أكثر منك؟
قالت:- يا زلمة عِفّ عنّي.
قلت:- وكيف أعفّ عنك وانت قطعة من شعبي ومن وطني؟
قالت:- إذن يوجد ما يجمعنا؟
قلت:- نعم إنسانيّتنا وقضيّتنا وهويّتنا.
قالت:- أشعر بالأطمئنان عندما أحسّ بشيء مشترك مع مجموعة من نفس الطّينة والمصدر.
قلت:- الموت بين النّاس نعاس، حتى وإن تعرّضوا الى وجع الراس.
قالت:- فلننطلق من هذا الأساس.
(ضحكنا وانطلقنا)
****
قَصْف ذهني مسرحيّ: راضي شحادة
قَصْف ذهني كاريكاتيريّ: خليل ابو عرفة
[email protected]
أضف تعليق