بقلم: د. أحمد أمارة
من يتواجد في احدى جلسات مجلس حقوق الانسان في الامم المتحدة في جنيف-سويسرا مثلا يستغرب من كمّ التعاطُف مع القضية الفلسطينية خاصة ومع قضايا الشعوب المظلومة عامة. ويستهجن كيف سُمح بتدمير فلسطين أو بعدم تحريرها وضمان حريات شعبها وعودتهم لوطنهم وغيرها من الحقوق حتى اليوم. لا تقتصر الجلسات على المتضامنين مع القضية من جمعيات المجتمع المدني التي تسعى لتحقيق العدالة وانما من الموظفين الرسميين ومن يتبوأون مناصب عليا في مجال حقوق الانسان في الامم المتحدة. ومن مِنا لا يمرّ بمخيلته عند سماع اسم دولة سويسرا بأفكار مرتبطة بالسلام وحقوق الانسان (والشوكلاطة والجبنة والساعات أيضا). كان هذا الشعور العام للمجموعة الرابعة لمؤسسة ميزان لحقوق الانسان من محامون وناشطون والتي قمت بتدريبها في مجال المرافعة والقانون الدولي لحقوق الانسان في آذار المنصرم. فإلى جانب النصوص البرّاقة لضمان حقوق الانسان، كانت اللقاءات وحضور الجلسات توحي بواقع منفصم الشخصية عمّا نعرفه ونألفه. لا نستطيع انكار انه شعور جيد حتى ولو انه وهمي ومغالط.
كان علي مغادرة جنيف في اليوم الاخير للدورة التدريبية للمشاركة بورشة عمل في أكرا-غانا في غرب أفريقيا حول المدينة وتطورها في مرحلة ما-بعد الاستعمار (post-colonial city) لجامعة نيويورك والتي لها فرع في العاصمة الغانية أكرا. وشاء أن أمرّ بلشبونة-البرتغال في طريقي لغانا. لم تكن تلك التفاصيل مهمة فعلاً لولا زيارتي في اليومين الاخيرين للرحلة لقلعة العبيد كايب كوست (Cape Coast Slave Castle) في غانا وهي واحدة من أربعين قلعة لتجارة الرقيق والتي تم انشاءها على سواحل غانا بين القرنين ال- 15 وال- 19، بداية كحصون وتم بعدها تطويرها لقلاع التي تم التنازع عليها، نبذها او احتلالها خلال صراع القوى الاوروبية على الهيمنة والخيرات الافريقية. عندها تشابك تاريخ الاستعمار الاوروبي والبرتغالي بالذات كونه أول من بدأ استعمار "ساحل الذهب" سنة 1471 وهو غانا اليوم وقام مع قوى استعمارية أخرى (السويد الدنمارك هولندا ألمانيا وبريطانيا وبلجيكا وفرنسا وغيرها التي تحظى بتاريخ استعماري ثري في القارة الافريقية) بتأسيس تلك القلاع. كانت في البداية مراكز لادارة تجارة الخشب والذهب وسريعا تحولت تلك القلاع القائمة خلال القرن ال-16 مع قلاع جديدة تم بناءها لاحقا للتجارة بابناء آدم ذوي البشرة السوداء. ليتم تجميعهم في تلك القلاع ومن ثم تصديرهم لاوروبا ومن هناك توزيعهم "للعالم الجديد"- الامريكيتين. سلعة أخرى للتجارة كالذهب والخشب والسكر والبهارات لإشباع مساعي الربح لدى القوى الاوروبية (وهنا لا أستثني بشكل عام دور الافارقة ذاتهم او العرب في تجارة الرقيق في شرق أفريقيا بالذات، زنزيبار والصحراء الغربية والخليج العربي واليمن ومصر والسودان ولكنه ليس في الزمان والمكان المطروحين هنا- فقط كمثال فإن موريتانيا منعت العبودية قانونيا فقط في 2007).
هذا هو مثلث الظلم والدمار بين افريقيا اوروبا والامريكيتين، مثلث الابادة والاستعمار، ومثلث اعمار ديار وتدمير دياراً وحضارات اخرى والذي ما زال وقعه ظاهر حتى يومنا هذا على مآسي أفريقيا أو على التقدّم الغربي. جريمة العبودية والاستعمار هي الجريمة الكبرى في التاريخ، جريمة ابادة وتدمير مئات الملايين من البشر !! لا يجب أن ننسى تلك الجريمة أو ننجرّ وراء التشديد على جرائم بشعة حديثة أخرى وكأنها "غير مسبوقة" ومنها جريمة المحرقة وجرائم الحرب العالمية الثانية، والتي تطورّ معها خطاب حقوق الانسان الذي تداولناه في جنيف. لا نسمع غالباً عن تلك الجرائم أو على الأقل عن حجمها وعن أثرها!
ذهبت برفقة اصدقاء لسفر ثلاث ساعات غرباً خارج العاصمة أكرا. كانت مناظر خضراء خلّابة ومناظر استوائية لا نتخيلها بالعادة كجزء من المشهد الافريقي العام (فقر وصحراء وعنف)، بالذات بعد مغادرة العاصمة المكتظة ذات حارات الفقر ومواقع النفايات الواسعة. لكن على الرغم مما يبدو فوضى عارمة للسير والشوارع والبائعون والبائعات على تلك الشوارع فهناك توازن وهدوء غير مألوف وغير متوقع- ما شاهدته كان احترامات متبادلة وأخلاق عالية غير مألوفة لدينا عالاقل لو توفرت تلك الظروف من الزحمة والاكتظاظ وفقر البنية التحتية. وصلنا لمنطقة كايب كوست ودخلنا القلعة التي أصبحت أحد المعالم السياحية بشكل عام ومزار للحجيج الأفريقي من الامريكيتين. منظرا يوحي بالوحشة والعظمة وخلال الجولة كانت تنكشف الجريمة أكثر وأكثر.
أكرا- سودوم وجومورا- مكب النفايات الديجيتالي
الخضار والطريق لكايب كوست والقلعة في الخلفية
بعد وقفة قصيرة على الاسوار المحيطة بالقلعة والمواجهة للمحيط الاطلنطي وعليها أعداد من المدافع للدفاع عن القلعة ضد قوى اوروبية أخرى، تخطينا النفق المحفور حول القلعة للدفاع عنها ولمنع هروب العبيد منها. بعد المدخل يوجد ساحة واسعة تدلّ على ضخامة تلك القلعة التي لا توحي بالبداية بانها بذلك الحجم. ولسخافة الأمر يوجد في منتصف تلك الساحة الكنيسة. وقد كان المبشرون المسيحيون يزورون القلعة خلال رحلاتهم التبشيرية للقارة الافريقية. وقد استبدلت القلعة ايادي بين البرتغاليين والهولنديين والسويديين ومن بعدهم استولى عليها البريطانيون (1665) وقاموا بانشاء كنيسة أخرى. تتقسم القلعة لغرف وقاعات متعددة شملت بالأساس غرف معتمة مساحة كل منها نحو 20 متر ولها شباك صغير في اعلاها وتُعرف بالزنازين يمكثها العبيد وكانت بمثابة غرف لتخزينهم الى ان يحين موعد شحنهم. ويصل العدد في كل من تلك الزنازين لحوالي 150 شخص والعدد الاجمالي للعبيد في القلعة قبل شحنهم كان يصل الى ألف: بمعدل 600 رجل و 400 امرأة. كان العديد منهم يموتون جوعا خنقا او من الحر والتعذيب داخل القلعة. لكن من كان يصل للقلعة هو فعلياً الاقوى جسدياً وصحياً والغالبية كانت تموت في الرحلات الطويلة مشيا على الاقدام من مناطق افريقية مختلفة في طريقهم الى القلعة.
كانت الطبقات العليا من القلعة مكاتب وسكن لحاكم القلعة وللموظفين والمدافعين عنها لإدارة أمور القلعة وتجارة العبيد وغيرها من الشؤون الاستعمارية. غرف شرحة مرتبة ومطلة على الساحل ولها شبابيك واسعة للنور الطبيعي. لولا إدراكنا اننا في مكان ذو تاريخ قاتم لكان المرء يتمنى ان يسكنها كغرف وشليهات فندقية فخمة. كان لتلك الغرف والقاعات بلكونات خارجية، منها مع مدافع منصوبة باتجاهات مختلفة، ولها بلكونات داخلية تطل الى داخل القلعة. كان عندما يشتهي الحاكم ان يشبع غريزته يأمر جنوده أن يُخرجوا العبيد الاناث لساحة داخلية وبدوره كان يقف على البلكونة ويختار فريسته. يحضروا له الفريسة للطبقة العليا لاغتصابها وفي حالات عديدة كانت تحمل تلك الضحايا الأجنة التي كانت تولد وتعيش بقرب الحاكم او تحت حمايته لتخلق طبقة اجتماعية جديدة.
الساحة من بلكونة حاكم القلعة
من كان يموت من الاناث والذكور العبيد في القلعة كانت تُرمى جثثهم في المحيط ومن يعيش كان يتم شحنه عبر المحيط ليلقى بعضهم الموت في السفينة خلال الرحلة او فيما بعد. كانت هندسة الموت والربح تعمل بشكل يتطلب أقل عدد من الجنود للسيطرة على العبيد وتقليل امكانية الثورة ضد الأسياد هناك. كانت ممرات مع ابواب حديدية توصل وتفصل بين الزنازين وتزداد ضيقاً وانحدارا الى ان تصل الى فتحة في جدار القلعة تتسع لمرور شخص واحد فقط بعرض 25 سنتمترا تقريبا ليمر منها الى سفن صغيرة تنقلهم للسفن الاكبر المنتظرة في مياه أكثر عمقاً. فتحة العشرين او اكثر سنتمتر كانت شباك مغادرة القارة الافريقية، مغادرة البيت والوطن والعائلة والاحلام الى حياة تجريدية أكثر ضيقاً من تلك الفتحة ليعملوا في البيوت والمزارع والورشات المختلفة في اوروبا والكاريبيان والولايات المتحدة وغيرها.
فتحة مغادرة القارة- 25 سم
لم تقتصر الجريمة هنا فكان للعبيد حاجة في هندسة جريمة أخرى لا تقل وحشية. فبين الانسان الابيض المُستعمر والاسود العبد كانت ضحية اساسية أخرى لتستكمل مثلث الدمار: السكان الاصلانيين في الامريكيتين والذين تمت ابادة 90% منهم وتم احتلال وطنهم وتدميره وتدمير حضاراتهم لاقامة مستعمرات استيطانية مختلفة ولامتصاص خيرات تلك البلاد أيضاً. واذا ما نظرنا للارقام فالتقديرات تُشير الى أن من تم شحنهم من القارة الافريقية بين القرن ال-16 وال-19 هم 12 مليون شخص وقد مات منهم 1.5 مليون على متن سفن الشحن، عدا من مات خلال تجميع العبيد وترحيلهم قبل وصول القلاع. أما من تم ابادتهم خلال القرن الاول للاستعمار في الامريكيتين هم حوالي 130 مليون شخصا. عشرات الملايين الاخرى على اقل تقدير قد تم قتلهم وتجويعهم من القوى الاوروبية الاستعمارية في القارة الافريقية ذاتها.
الّا لنا أن ننسى هذه الجرائم المستمرة والافقار والجوع والظلم بالذات في افريقيا حيث ما زال الاستعمار الاوروبي مستمراً. وكما بدأ الساحل الغاني بتسميته ساحل الذهب فما زالت شركات اوروبية تسيطر بطرق مختلفة على الخيرات الافريقية وتُفقر وتجوع اهلها: في غانا تسيطر شركة بريطانية على مناجم الذهب حتى بعد "استقلال" غانا من الاستعمار البريطاني في الخمسينيات، وتسيطر شركات أخرى على البترول وتسيطر الشركات السويسرية على تجارة حبوب الكاكاو لصناعة الشوكلاطة السويسرية المشهورة. وبذلك فإن الحلاوة الوروبية هي على حساب مرارة مئات الملايين. ولسخرية القدر فقد زرت في اليوم التالي المحمية الطبيعية كاكوم في غانا والتي تبلغ مساحتها 360 كم مربع نفس مساحة قطاع غزة الذي يعاني الافقار والسجن والتجويع والظلم والتشريد على مرأى ومسمع دول حقوق الإنسان وعلى مرآنا نحن.
[email protected]
أضف تعليق