في أيام آبائنا وأجدادنا، حين كان الاحترام ديدننا. كانت التربية سائدة والأمور في أحسن حال، فالاحترام واجب الصغير نحو الكبير والولد تجاه والديه وأعمامه وكل من كبره سنا في العائلة، بل سادت تلك القاعدة في الحي والبلد وبين جميع الناس. كانت الأخلاق عالية ومن تمرد عليها قوبل بالنبذ والازدراء، وشعر الفاعل بالخزي والعار فعاد وقدم الاعتذار بخجل وحياء. لم تكون البطولة زعرنة وانفلات، بل كانت شجاعة وفتوة وانضباط. لم تكن الشطارة سرقة واعتداء واغتصاب، بل كانت شهامة ودعم وللرذيلة اجتناب. لم يلجأ الناس لحل الخلاف الى السلاح وتنظيمات الاجرام، بل كان الكبار أسياد الموقف وعند الحاجة الى لجان الصلح يتم الاحتكام.
في أيام زمان حين ساد العدل والميزان، وكانت المدرسة في أقوى صورة والمعلم يشارُ له بالبنان، سار الطلاب بتربية مشتركة واحدة، سواء في المدرسة أو البيت أو الديوان. وتعاون الأهل مع المعلم على تربية البنات والصبيان. فكان الطالب يخفض جناح الذلّ لمعلمه في الصف أو الرواق أو الشارع بخشية واذعان. واذا تهاون وتواقح وحاول أن يشذ عن القاعدة، وجد العقاب له سبيلا في التقويم ورد اليه الاتزان. لم يعترض يومها والد ولم تشتكي أم ولم يقولا بأن الولد ساء عقله واختلّ الميزان.
جرت مياه كثيرة في الوديان، وتحول الميزان ومال الناس مع الزمان. خرجت علينا قوانين ونظريات، بدأت مع المدارس تهدم باسم الحريات. أرادوها نقلة كبيرة بحجم الجبال، بينما عقولنا ما زالت في الماضي مكبلة بالغلال. قالوا وادعوا بأن العقاب يولد التعقيد، وأن الخوف في التدريس لا يفيد. ونادوا بتقييد صلاحيات المعلّم، حتى أفقدوه حقه في التكلّم. ولم تعد للمعلم في المدرسة مكانة، بعدما خلعوا عنه باسم القانون الحصانة. وأطلت من جحورها وقاحة الصبيان، وتمادى الفتية ولم يعد احتواؤهم بالإمكان. وهدأ من روعنا المحدثون والمنظرون، بأن الحداثة تتطلب المرونة ممن يعلّمون. لكن الحداثة خرقت أصول الذوق والتربية، وخرج الأمر عن كونه تجديد في الرؤية. وخجل المعلمون وصمتوا وعن الاعتداءات والاهانات سكتوا. والعديد من الأهالي فقدوا البصيرة ولم يحسبوا للمستقبل حسابا لأنهم بأولادهم اغتبطوا. وقسم منهم تماهى مع أبنائه وعلى الشر شجعوا، واذا ما عنّفَ المعلمُ ابنَهم الى المدرسة حضروا، لا لكي يشكروا المعلم حرصه، بل مع أولادهم تماهوا وادعاءاتهم دعموا.
وكان لا بد أن تأتي علينا أوقات، فيها الأبناء على آبائهم في انفلات. لم يعد للاحترام والتقدير والمحبة مكان، وباتت الشرطة والمحاكم ملاذا للخلاف بين الاخوان. فقد الآباء مكانتهم وأمسى الصغير حاكما للدار، فهوت بيوت وتهاوت عائلات وتنازع الأهل وما عاد من دور للجار. لم تعد شتيمة تكفي ولا عصا بالحاجة تفي، وقالوا للجان الصلح عن البسيطة اختفي. أضحت الشوارع لخفافيش الليل بين جنباتها يعيثون، والرصاص يلعلع والقنابل تدوي وكأننا في حرب ماضون. وخرج الجمع يشكو ويسأل ماذا فعلنا وأي خطأ ارتكبنا، وألقى البعض اللوم على الشرطة ونأى بنفسه عن تردي حالنا. وعاد الينا المحللون وأصحاب النظريات، بكلام منمق يلقونه في الإذاعات. كل صباح نستفيق على جريمة، ويعود الاعلام على ذات الترنيمة. سئمنا يا سادة الكلام، سئمنا التنظير والهراء، نريد حلولا ونريد أن نعيش حياة سرّاء.
[email protected]
أضف تعليق