ترافقت أعياد الميلاد المسيحية، هذا العام مع معركة المسيحيين والمسلمين الكبرى ضد الإعلان العدواني للرئيس الأميركي، ترامب، بخصوص مدينة القدس المُحتلة. وتعود هذه المعركة لقرون طويلة خلَت، من التحريض اليهودي للحاكِم الروماني على المسيح وصلبه في (قدر إلهي) ضمن فلسفة القربان المسيحي، إلى ما تعاهد عليه البطريرك صفرونيوس مع عمر بن الخطاب، وتضمّن عدم السماح لليهود بدخول المدينة المُقدّسة.
وكانت القبائل الهمجية اليهودية القديمة، منذ أن غزت هذه المدينة، وهي في صِدام دائم مع سكانها الأصليين من العرب الكنعانيين ومع القوى الإقليمية والدولية التي فرضت وصايتها على المدينة، مثل الحُكّام السلوقيين في سوريا ثم الرومان وخاصة في عهد تيطس. وحسب الرسائل المُتبادَلة بين ماركس وأنجلز حول الشرق، فإن هذه القبائل لم تعرف القدس أبداً، وكانت عبارة عن مجاميع من البدو المرتزقة الذين يؤجّرون خدماتهم لملوك الشرق بين البلاط الفرعوني وملوك الهضاب الآسيوية.
وقد أقحمت هذه القبائل القدس في تاريخها المزعوم في وقت متأخّر، عبر عدد من المدوّنين الذين نسبوا تراث المدينة والشرق كله للتاريخ اليهودي المزعوم، وحوّلوا رموزه إلى رموز يهودية، واشتّقوا من الآرامية لغة خاصة بهم، للاستقواء بها للزّعم بأن القدس والمناطق الآرامية المُحيطة بها كانت موطِناً مزعوماً لهم. هذا عن الخلفيّة التاريخية لمعركة كل الثقافات والحضارات والأقوام الشرقية مع المزاعم اليهودية في القدس وغيرها، أما المعركة الأساسية التي تدحض كل صلة للقبائل اليهودية الرعوية بالقدس كما تدحض كل صلة بين اليهودية والمسيحية، فهي المعركة المعرفية والأيديولوجية، التي حجبتها أو زوّرتها صفقة الدوائر الاستعمارية الأوروبية مع المصارف الربوية اليهودية، وحوّلت الصراع بين العهد القديم (التوراة المنحولة) وبين العهد الجديد (المسيحية) إلى تكامل يبقى الإيمان المسيحي ناقصاً من دونه.
ذلك أن التدقيق في جوهر وسياق العهدين، لا يؤشّر إطلاقاً إلى أيّ تكامل بين البداوة اليهودية والمدنية المسيحية، ناهيك عن أن اليهودية بكل تيّاراتها العُنصرية، لا تعترف بالمسيح وتعتبره نبياً دجالاً وترى أن المسيح الحقيقي لم يظهر بعد، ولا بدّ من أن يكون ملكاً على اليهود من نسل الأسباط المزعومين، وهو ما ترتّب عليه الموقف المعروف للكنائس المسيحية وحاضرة الفاتيكان، التي ظلّت على مدار قرون طويلة في معركة مُحتدِمة مع اليهودية واليهود، وذلك قبل انقلاب البيوتات المالية الربوية اليهودية على الإقطاع الأوروبي وتحوّلها إلى دعم ملوك الثورة الصناعية البرجوازية، وترجمة ذلك في الصفقة التاريخية بين بعض الباباوات والمراكز اليهودية، والتي تضمّنت تبرئة اليهود من دم المسيح.
إلى ذلك، فإن الخلاف الكبير بين اليهودية والمسيحية يعود إلى خلاف البيئة الاجتماعية وما نجم عنه من خلافات معرفية تمسّ جوهر الديانتين، فاليهودية كأيديولوجيا مرافقة لنهب الطرق التجارية والثقافة الربوية وبالتالي فهي إبنة الليل، حيث كانت القوافل تسير ليلاً تجنّباً لشمس الصحاري.
وفي المقابل، فإن المسيحية هي أيديولوجيا الزراعة النهرية والثقافة الشمسية، وما تعنيه من طقوس الإبن القرباني، وهي أقرب إلى ثقافات وحدة الوجود والتسامُح والصوفية الآسيوية، وهو ما يظهر في أقوال المسيح المعروفة، مقابل ثقافة القتل والسيف والإنعزالية العنصرية اليهودية، والوصايا المُغلّفة بالتأويل الضيّق: لا تقتل ولا تسرق يهودياً، فيما الوصايا المسيحية أممية الطابع وتنسجم مع الجوهر الإنساني في رسالة يسوع.
إنطلاقاً من ذلك وتأسيساً عليه، فإن كل حديث عن تراث يهودي في القدس إلى جانب التراث المسيحي أو مكمّل له، حديث غير دقيق وغير تاريخي، وكذلك الجمع بين العهدين، فهو كمَن يجمع بين الله والشيطان في كأس واحدة، كما أن تنسيب المسيح إلى سلالة داوود المزعومة يفرّغه من كل بُعد لاهوتي ويحوّل رسالته من مملكة في السماوات إلى مملكة أرضية.
وأياً كانت دقّة الأقوال المنسوبة إلى متّى (جئت لأكمل) فهي غريبة بالمُطلق عن رسالة المسيح الحقيقية (جئت لأنقض) العهد القديم، عهد التكالُب الربوي والقتل والنهب بعهد سماوي روحي إنساني.
[email protected]
أضف تعليق