روسيا.. هذا البلد العظيم بحضوره الطاغي عالميا في السنوات الأخيرة، وصاحب الحضارة العريقة والتراث الغني والآداب والفنون على أنواعها. هذا البلد يشد اليه الأنظار ليس بجانبه السياسي والدبلوماسي والعسكري فحسب، بل يشد اليه رغبة السواح والزائرين من مختلف أقطاب المعمورة، الذين يأتون اليه للتعرف اليه عن قرب ومعايشة ما سبق وقرأوا أو سمعوا عنه.
وهناك من الأدباء من زاروا روسيا في عصرين مختلفين، عصر روسيا الشيوعية (الاتحاد السوفييتي سابقا) وعصر روسيا الاتحادية حاليا، وكتبوا انطباعاتهم وعبروا عما جال في أفكارهم وعقدوا مقارنات وأفاضوا بهواجسهم، فما هي خلاصة ما خرجوا به، والى أي مدى تعكس تلك الانطباعات الواقع؟
زار الشاعر اليساري الاسرائيلي يتسحاك ليئور، موسكو في العام الحالي، ولخص انطباعاته من هذه الزيارة في مقال نشر على جزئين في الصفحة الأدبية لصحيفة "هآرتس" الاسرائيلية ( 13/10/2017 و20/10/2017) وجاء الجزء الأول تحت عنوان " مدينة بلا حنين" استعرض فيه ليئور ما كان قد رآه في موسكو خلال زيارة له ضمن وفد شيوعي للاتحاد السوفييتي. وتحدث عن السلبيات التي رآها ولم يجرؤ يومها على المجاهرة بها، مثل سيطرة أعضاء الحزب والكوادر المحترفة به على الناس، والنفوذ الذي تمتعوا به ومعروضات الخضار وخاصة الملفوف نتيجة خطأ في التخطيط الزراعي. ويذكر حادثة له مع مرافق شيوعي يهودي من روسيا، ومحاولة نشطاء في الوكالة اليهودية تشجيعهما على الهجرة الى اسرائيل، في اشارة الى نشاط الوكالة في ذلك الوقت على تشجيع اليهود للهجرة. وينتقد ليئور ما شاهده من بنايات شاهقة بشكل غير منتظم في موسكو اليوم، مما جعلها مدينة لا يمكن الحنين اليها كما قال. أما ما لفت نظره فهو الهدوء والنظافة التي شاهدها في موسكو، وكان يظن سابقا أن ذلك له علاقة بالنظام الديكتاتوري الشيوعي، وهو ينوي تقديم اعتذار للشعب الروسي عن رأيه هذا.
في الجزء الثاني بعنوان " من فلاديمير حتى فلاديمير" وقصد بالأول لينين مفجر ثورة أكتوبر الاشتراكية، والثاني ليس بوتين الرئيس الروسي الحالي، كما توقعت لأول وهلة، انما القديس فلاديمير وتمثاله المنصوب في ميدان مقابل مجمع الكرملين ويبلغ ارتفاعه 16 مترا، وهو الذي نقل روسيا الى المسيحية في القرن الحادي عشر. وتحدث عن زيارته لمقبرة العظماء المشهورة "نفاديتشي"، والتي تضم رفات شخصيات روسية كبيرة ومنها الأدباء والفنانين، وكذلك يشير الى تماثيل غوغول وبوشكين في الشوارع العامة وعاد للحديث عن نظافتها مبهورا. لكنه يخلص إلى أن موسكو تغيرت ولم تعد تترك أي مكان للحنين اليها لأنها لا ترتاح، وبالتأكيد ستكون مدينة أخرى اذا ما عدنا اليها، كما يؤكد.
وهكذا يصعب فهم ما يبغيه ليئور، فهل هو يحن لموسكو الشيوعية في الوقت الذي ينتقدها بقسوة، أم يهاجم موسكو الجديدة لدواع سياسية وعدم رضاه عن سياسة بوتين؟ انه لم يفصح عن حقيقة أفكاره وهذا تراجع لا يليق بشاعر يساري صاحب مواقف معروفة.
بالمقابل فان الكاتب المصري اليساري يوسف القعيد، وضع كتابا بعنوان " الكتاب الأحمر رحلاتي في خريف الحلم السوفييتي" الصادر عام 1992 وواضح من العنوان أن القعيد ينقل لنا انطباعاته في نهاية العهد الشيوعي، وعشية قيام روسيا الاتحادية من جديد.
يدخلك يوسف القعيد من خلال كتابه في أجواء حزينة ومؤسفة، حيث ينقل انطباعاته من زياراته الهامة خلال حكم غورباتشوف وبداية التحول السياسي والابتعاد عن الشيوعية وملامح انهيار الاتحاد السوفييتي وهو ما تم لاحقا، وينقل انطباعاته المتشائمة والتي تحققت للأسف، والأجواء الجديدة التي ستنقل روسيا الى مرحلة جديدة وغريبة عنه الى الغرب والتغرب وهجران الشيوعية والاشتراكية التي صوروها لنا كنموذج مثالي للحكم، واذ ينتشر به الفساد والعفونة مما أدى الى انتشار الروائح الكريهة في الخارج، وبات من الضروري نشر الغسيل الوسخ بعد نفض كل الغبار عنه وغسله بالمواد المنظفة المستورد من الغرب.
يروي لنا يوسف القعيد عن تغير المفاهيم والقيم التي سادت في الفترة الشيوعية، من التقشف والاشتراكية والاعتزاز بالوطن ورموزه، الى الانقلاب والهروب نحو الغرب وقيمه ومفاهيمه، من الدولار الى المكدونالد والبيتسا الى الزنا والتجارة الحرة وحياة الليل. وبالتالي انحسار وتراجع دور المثقفين والكتاب السوفييت، بل تنكر البعض لمواقفه وتاريخه وخيانته للدرب، واللهاث وراء الغرب حتى اسرائيل في سبيل الشهرة أو الوصول الى جائزة "نوبل"، تلك اللعنة التي تلاحق الأدباء وأموالها تبيع وتشتري اكبر اديب، والذي عليه أن يمر أولا من بوابة اسرائيل.
يقدم يوسف القعيد صورة قاتمة عن الاتحاد السوفييتي خاصة في سنواته الأخيرة، وهو يلقي باللائمة على ميخائيل غورباتشوف، آخر سكرتير عام للحزب الشيوعي السوفييتي الذي أعلن بنفسه عن حل أقوى دولة شيوعية وسلّم مقاليد الحكم للحاكم الأول لجمهورية روسيا ألا وهو بوريس يلتسين.
ومما عزّز ما ذهب اليه القعيد في اتهام غورباتشوف وتحميله مسؤولية انهيار الاتحاد السوفييتي، أنه صدف وشاهدت برنامجا وثائقيا في أيلول الماضي على فضائية "الميادين" يتناول مسألة انهيار الاتحاد السوفييتي ودور غورباتشوف، حيث كشف البرنامج عن دوره المشبوه وأن ما نادى به من اصلاحات داخلية لم يكن سوى خديعة، مما يؤكد أن هناك أمورا عدة يجب اعادة النظر فيها، وليس كل ما نسمعه أو نشاهده مسلم به.
لكن اليوم اختلفت الأحوال ورأينا كيف استعادت روسيا وخاصة في فترة حكم الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، دورها وأهميتها وقوتها على صعيد العالم، حيث تقف اليوم روسيا ليس موازية للولايات المتحدة فحسب بل تتفوق عليها في حقول عديدة، فماذا كان سيقول الكاتب يوسف القعيد في روسيا اليوم؟ وهو الذي اقتبس أقوال كاتب روسي أبدى الاعجاب به لمواقفه وهو فالنتين راسبوتين، حيث تحققت نبوءته بعودة روسيا الى مجدها وقوتها بعد مرحلة الانكفاء على نفسها لتعود دولة عظمى. وهذا ما حصل فعلا، حيث مرت روسيا بمرحلة الانكفاء على النفس وكانت ضعيفة ومجروحة، لكن مع صعود نجم بوتين وانتهاجه سياسة جديدة، أعاد عبرها القوة والعظمة والعزة لروسيا وحضارتها وحاضرها وتطلعها نحو مستقبل مغاير. روسيا بوتين باتت من أقوى – ان لم تكن أقوى- دول العالم، بل أن رئيس الولايات المتحدة ترامب، أبدى ويبدي اعجابه ببوتين، وهذه ظاهرة جديدة ومرحلة مختلفة فيها تلعب روسيا دورا ربما يفوق الدور الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في أيام مجده حين كان يضم 16 جمهورية اشتراكية، واليوم روسيا الاتحادية لوحدها برئاسة بوتين تقود العالم وتلعب أهم الأدوار فيه وليس النموذج السوري الا مثال على ذلك.
(شفاعمرو/ الجليل)
[email protected]
أضف تعليق