أردوغان يقف فيما يتصل بحلب في "منزلة بين منزلتين"، ولكنه في الحقيقة لم يتخلى عن أحلامه فيها، وهو مستعد للتحالف مع أي طرف من أجل تمرير سياساته، ومستعد بالقدر نفسه للانقلاب عليه، عندما يجد ذلك مناسباً أو فيه مصلحة له؛ وموقفه تجاه حلب تفسره كلمة واحدة هي "التمكين".
كادت حلب أن تفجر مواجهة كبرى في سوريا بين روسيا والولايات المتحدة، لولا أن موسكو وواشنطن لجأتا إلى تخفيف التوتر وسلوك طريق الحوار والضغوط الدبلوماسية بدلاً من الحرب. ولكن اللافت أن تركيا كانت "غائبة" تقريباً عن تلك المعركة السياسية والإعلامية. في مواجهات من هذا النوع، بل في الحدث السوري عموماً، كان أردوغان أول الداعين للحرب، وأول المتهجمين على روسيا وإيران وحلفاء سوريا الآخرين، وأكثر المنددين أو المنتقدين لموقف الولايات المتحدة الذي وصفه سابقاً بـ"المتردد" و"المتخاذل".
لكن يبدو المشهد اليوم مختلفاً، ذلك أن واشنطن تقود المواجهة السياسية والإعلامية حول حلب، فيما تقف أنقرة موقفاً مختلفاً، بل ان أردوغان استقبل الرئيس بوتين في اسطنبول (11 تشرين الأول/أكتوبر الجاري) الذي أعلن أنه وأردوغان يدعمان اقتراح دي مستورا القاضي بإخراج مقاتلي "جبهة النصرة" من الأحياء الشرقية للمدينة. وذهب وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى اجتماع لوزان حول حلب (15 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري) واقترح خطة للتهدئة، قريبة جداً مما تريده موسكو.
هذا من الأمور غير المعتادة في موقف تركيا من الحدث السوري عموماً، وفي الصراع على حلب خصوصاً. فهل تغير فعلاً موقف أردوغان مما يجري في سوريا، وهل يمكن أن يتخلى عن طموحاته في حلب؟
ثمة مؤشرات كثيرة تؤكد الإجابة بـ نعم، وثمة مؤشرات أخرى تؤكد العكس أيضاً، والواقع أن أردوغان هو من أكثر المنخرطين في معركة حلب ميدانياً، وأما "غيابه" عنها سياسياً وإعلامياً، فهو جزء مما يعرفه أردوغان والتيار الإخواني عموماً بـ استراتيجيات "التمكين"، ليس في حلب ومحيطها فحسب، بل في المشهد السوري، وربما الإقليمي والدولي أيضاً، كيف؟
في الوقت الذي يقوم فيه أردوغان بتوسيع نطاق سيطرة قواته والجماعات المسلحة الموالية له في شمال وشرق حلب إلى حوالي ألف كم2، ومن دون أن يعترض أحد تقريباً، فإنه في الوقت نفسه لم يواصل إرسال وتمرير السلاح والمقاتلين إلى مناطق شرق حلب وشمالها الخ كما يواصل توجيه رسائل للجماعات المسلحة، من أن تركيزه على ريف حلب هو لأسباب استراتيجية، وأنه إذ يزجّ بها في عملية "درع الفرات"، فذلك من أجل "تطويق" أي نصر للجيش السوري وحلفائه في حلب نفسها، ذلك أن المدينة لن تكون مستقرة إذا كان جزء كبير من ريفها تحت سيطرة تركيا أو الجماعات الموالية لها.
هدف أردوغان اليوم هو تحقيق ما أمكن من السيطرة على ريف حلب تاركاً المدينة للتجاذبات الإقليمية والدولية حولها، ومواجهات الجيش السوري وحلفائه من جهة والجماعات المسلحة المدعومة غربياً وتركياً الخ من جهة أخرى.
أردوغان يكتفي من موسكو بـ "موافقتها" على تدخله العسكري المباشر، و"تفهمها" لتمدد سيطرته جغرافياً، و"سكوتها" عن استمرار دعمه للجماعات المسلحة خلافاً لتعهدات ربما كان قطعها للروس والإيرانيين بعد محاولة الإنقلاب التي تعرض لها في (تموز/يوليو الماضي). وتكتفي موسكو منه حتى الآن بـ "تخفيف النمط" وليس "تغيير الموقف". وهذا لا يمثل تقارباً جدياً أو تغييراً عميقاً في الموقف بقدر ما يمثل "تساكناً" بين أجندات متعارضة، لأن في ذلك مصلحة مشتركة بينهما وفي موقفهما تجاه أطراف ثالثة، وعلى رأسها واشنطن.
كانت زيارة بوتين إلى تركيا (11 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري) حاسمة في موقف تركيا من الصراع السياسي والإعلامي حول حلب، واتضح ذلك في اجتماع لوزان حول سوريا (15 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري)، عندما طرحت تركيا مبادرة حول حلب، مؤكدة على مطلب روسيا الدائم المتمثل بالفصل بين الجماعات المسلحة الإرهابية المتطرفة وتلك المسماة "معتدلة"، وبدت مبادرة أنقرة مجاملة لموسكو مقارنة بتشدد تركيا السابق وتشدد حلفائها الحالي.
تضمنت المبادرة المذكورة ستة بنود تشمل: وقف إطلاق النار، وأيصال المساعدات الإنسانية بشكل عاجل، والتعاون بين روسيا و"قوات التحالف" في ضرب تنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة" بعد ضمان الهدنة، ووضع خريطة طريق حول التسوية في سوريا، والتأكيد على وحدة أراضي سوريا، واحتواء مخاطر نشوب نزاعات عرقية أو طائفية. وإقامة "منطقة آمنة" في سوريا.
وهكذا تُواصِل تركيا قضم المزيد من الأراضي في محيط حلب، ليس من أجل فرض "منطقة آمنة" بحكم الأمر الواقع و"احتواء" الكيانية الكردية في شمال سوريا فحسب، وإنما تهئية الظروف لوجود عسكري دائم هناك أيضاً، إلى جانب القواعد العسكرية التي تقيمها الولايات المتحدة وروسيا في شمال سوريا، وتعزيزاً لموقفها من الأزمة السورية، وقد تعد العدة لأن تقول كلمتها بشأن حلب عند أول افتراق أو صدام مع موسكو (وواشطن فيما يخص الكرد) وبالطبع تجاه أي تسوية محتملة أو حتى مواجهة كبرى في سوريا.
يبدو أن أردوغان يقف فيما يتصل بحلب في "منزلة بين منزلتين"، ولكنه في الحقيقة لم يتخلى عن أحلامه فيها، وهو مستعد للتحالف مع أي طرف من أجل تمرير سياساته، ومستعد بالقدر نفسه للانقلاب عليه، عندما يجد ذلك مناسباً أو فيه مصلحة له؛ وموقفه تجاه حلب تفسره كلمة واحدة هي "التمكين"، وهو مبدأ لدى الرجل، لا يتقادم بل يتراكم، أزمة بعد أخرى، تحالفاً بعد آخر. وهذا يفسر "سكوته" عن أمور كانت هي نفسها في أول أولوياته، فيما يقي توسيع سيطرته في محيط حلب بمهادنة الروس والإيرانيين الذين يدعمون الجيش السوري وحلفائه الآخرين لاستعادة السيطرة على المدينة، غير أن تلك الخصيصة يعرفها من تعامل معه وربما انخدع به سابقاً، وهما الرئيسان الأسد وبوتين، ومن مد له يد المساعدة مراراً، وهو المرشد الأعلى علي الخامنئي.
[email protected]
أضف تعليق