قبل فترة كنت حاضرًا في مؤتمر فلسطينيّ عقد في بيت لحم وصعقت عند سماع عريف إحدى الجلسات يحيّي الضيوف الذين توافدوا إلى القاعة من "جميع محافظات الوطن، من جنين شمالًا حتى الخليل جنوبًا" وعبّر عن أسفه أن أحدًا لم يستطع الحضور من قطاع غزة بسبب الحصار. وبدأ الجمهور يتبادل نظرات الحرج من هذا الترحيب الغريب، وخاصة أن عددًا لا بأس به من الحضور هم ناشطون وناشطات قد جاؤوا من الناصرة وحيفا واللد وأم الفحم.
تتشكّل مصطلحات جديدة في اللغة أحيانًا، أي لغة، كإفراز طبيعيّ غير مخطّط نتيجة وضع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافيّ، فتدخل اللغةَ تعبيرات جديدة تبتكرها العامّة ثم يتبنّاها الخبراء فتدرج في القاموس وتصبح جزءًا منها. هذا هو مسار لولادة طبيعيّة لكلمات جديدة تنبع من ظروف وأحداث مستجدّة وتعبّر عنها.وهي تخرج من القاعدة وتصعد إلى الأعلى. وهناك مسار آخر يبدأ من علٍ ويفرض نفسه على الخطاب الرسميّ بدايةً آملًا أن يحصل مع الوقت على شرعيّة العامّة ويندمج في اللغة. في الحالات السياسية المدروسة والمبرمجة والموجّهة، من قبل سلطات أو مراكز قوّة، يتمّ إقحام مصطلحات جديدة تعبّر عن نوايا ورؤى سياسيّة يبغي قائلها أن يفرضها على الحيّز العام والخطاب العامّ، ويرمي من وراء ذلك صقل الوعي والتأثير على المواقف وتغيير النهج.
فلسطينيًّا، ولأن كلّ كلمة لها وزنها وحساسيتها وأثرها على الظرف السياسي النضالي، وحتى نوضح لأنفسنا ونصفّي لغتنا التي تشابكت فيها مصطلحات تتعلق بالسلطة مع أخرى تتطرّق إلى الدولة وأخرى لها علاقة بالوطن، فهذه وقفة عند هذه المصطلحات علّها تساهم في طرح مخرج مناسب لمن تبلبل بينها ولم يقصد كيّ الوعي من خلال استعمالها.
لطالما لفت نظري في بيانات ومواقف صادرة عن شخصيات ومؤسسات في السلطة الفلسطينيّة أنّ "محافظات الوطن" في نظر هؤلاء هي فقط تلك الواقعة في الضفة الغربية وقطاع غزة. في الأيام الأخيرة مثلًا، أصدرت محكمة العدل العليا الفلسطينيّة قرارًا بشأن الانتخابات البلدية وجاء في نص القرار، الذي تلاه رئيس هيئة المحكمة، هشام الحتو، خلال الجلسة التي عقدت في مدينة رام الله، أن "المحكمة تصادق على تنفيذ قرار مجلس الوزراء الفلسطيني القاضي بإجراء الانتخابات المحلية في كافة الهيئات في فلسطين، ما عدا قطاع غزة". وكان واضحًا أن القرار يقصد بفلسطين الضفة الغربية فقط. وفي أعقاب هذا القرار أعلن رئيس الحكومة الفلسطينيّة في مستهل الجلسة الأسبوعية للحكومة ما يلي: “انطلاقا من إيماننا بوحدة الأرض والشعب، فإن مجلس الوزراء يقرر بالتشاور مع الرئيس تأجيل الانتخابات أربعة أشهر...." ومن الواضح هنا أيضًا أن رئيس الحكومة الفلسطينيّة يقصد بوحدة الأرض أرض الضفة وغزة فقط، وأن الشعب الذي يؤمن بوحدته، بناء على هذا التصريح، هو الشعب القاطن في الضفة وغزة. فكيف يستقيم هذا، وكلنا نعلم، ورئيس الحكومة ورئيس محكمة العدل العليا الفلسطينية ليسا بحاجة إلى تعريفهما بأماكن تواجد الشعب الفلسطيني ومدى امتداد الوطن؟
ما يخيف بالأمر، أن هذه ليست زلّة لسان. هذا بالطبع موقف ورؤيا سياسية. وهي بالتالي تربية "وطنيّة". إن تكرار هذه المواقف وشرعنة هذه الترمنولوجيا سوف يساهم بلا شكّ في خلق خطاب سياسي جديد يعبّر من ناحية لغويّة "فقط" عن الموقف السياسي الرسمي ولكنه في الحقيقة يحمل بين طيّاته تذويتًا لحجم الوطن الفلسطيني المنقوص وتضييقًا للرؤيا الفلسطينيّة ولجمًا لحدود النضال.
لا يخفى على أي فلسطينيّ أن السلطة الفلسطينية ومعها العديد من الأطر الدوليّة، بما فيها الأمم المتحدة والدول الغربية والعربيّة، تعترف بالجزء المحتل أولا من فلسطين عام 1948 كإسرائيل وأن دولة فلسطين، وفقًا للقرارات الدوليّة، إن قامت أصلًا فستقوم في الضفة وغزة والقسم الشرقي من القدس. ومن الواضح أن السلطة الفلسطينيّة وأنظمة عربية عديدة قد تبنّت هذا الموقف وتتصرف في المحافل السياسية والدبلوماسية بناء عليه.
ورغم ذلك، ما زالت هناك مساحة ممكنة للتدقيق في الاصطلاحات. فهناك فرق بين الدولة والوطن، وبين الوطن ومناطق السلطة الفلسطينية الحاليّة. يمكن مناقشة أصحاب الموقف السياسي القاضي بحلّ الدولتين، ويمكنهم تبرير الحكمة البراغماتيّة من وراء حلّ الدولتين، ولكنه يجب أن يظلّ نقاشًا حول طرح سياسي وحول عدد الدّول التي يمكن إقامتها أو لا يمكن إقامتها. لكن هذه الدول، أي الأطر سياسيّة، وبغض النظر عن عددها وأسمائها فهي كلها ستُقام في مكان اسمه فلسطين. هذه البلاد اسمها فلسطين، ويبقى اسمها فلسطين حتى لو لم يكن الحكم فيها فلسطينيًّا. هكذا كان اسمها في فترات احتلال سابقة للاحتلال الصهيوني. أهل البلاد لا يغيّرون اسم وطنهم بناء على أهواء المستعمر. لا بل هذا جزء من المقاومة ضد استعمار اللغة واستعمار الوعي. إن تعريف "الوطن" وحصره في جزء فقط من فلسطين هو رسالة خطيرة. من يوافق على وجود كيانات سياسيّة أخرى في فلسطين فقد تنازل ربما عن سيادته السياسيّة على ذاك الجزء، ولكن لا يحق له محوه من الوطن، مهما كان وضعه السياسي أو الاستعماري. حلّ الدولتين ليس معناه حلّ الوطنين. حتى من يطرحه من الفلسطينيين يؤمن بأن إسرائيل قائمة على إرض فلسطين، لا على أرض إسرائيل. وإلّا ففي ذلك خطورة مضاعفة.
لذلك، فإن محافظات الوطن لا تنتهي عند جنين شمالًا، ولا في الخليل جنوبًا، ولا يتوقف شرق الوطن قرب غزّة ولا غربه في رام الله. الجليل والمثلث والساحل والنقب وعكا والرملة وصفد هي أجزاء من فلسطين الوطن حتى إن لم تكن مشمولة في الدولة الفلسطينيّة المطروحة رسميًّا. وإن رضخنا أمام طرح يقزّم فلسطين الدولة فلسنا مكرهين على تقزيم فلسطين الوطن، ولا يسمح لنا بمحو أيّ جزء فيه من وجدان وذهنية وهويّة ووعي وإرث الكينونة الفلسطينيّة.
ففي الظرف السياسي الراهن، على من يتطرق إلى شؤون السلطة الفلسطينيّة أن يستعمل مصطلحات تعبّر عن حقيقة الوضع السياسي وتوضح القصد من التصريح، كأن يقول معالي رئيس الحكومة “انطلاقا من إيماننا بوحدة الأرض والشعب في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية"، وأن يقرر سعادة القاضي إجراء الانتخابات في "كافة الهيئات في الضفة الغربيّة"، وأن يرحب مدير الجلسة – إن لم يشأ الترحيب بكل الفلسطينيين من كل محافظات الوطن- بالوافدين من "كل محافظات السلطة الفلسطينيّة"، لا هيئات ومحافظات الوطن كلّه. إلا إذا كان هناك تصميم على كيّ الوعي الفلسطينيّ وإغتصاب اللغة والالتفاف على الجغرافيا وتحويل البوصلة عن قصد.
هذا الفكر يتناغم مع مطالب إسرائيل وطموحها في انتزاع اعتراف فلسطيني بدولة اليهود على أرض إسرائيل. وإسرائيل تغذّي مثل هذا الخطاب وتروّج له. وعندما يذوّته الفلسطيني ويردّده فهذا أخطر، وسيعطي شرعية لأطراف عالمية أن تبنّاه، وسيضعف الحركات السياسية الراديكالية الداعمة لفلسطين في العالم.
وأختم مع هذه التجربة الصاعقة، فإنّي وبطريق الصدفة وصلت إلى موقع "إسلاميّ" على شبكة الانترنت يسمّى islamicfinder والذي يسوّق نفسه "كمنصة للمجتمعات الإسلاميّة في أكثر من 20000 مدينة في جميع أنحاء العالم"، وصلت إليه عندما بحثت عبر "چوچل" عن أوقات الصلوات في فلسطين، لأجد أن قائمة "كل مدن فلسطين" لا تشمل إلا مدن الضفة وغزة. حتى أنها لا تشمل القدس. وعندما بحثت فيه عن القدس وجدتها ضمن قائمة المدن الإسرائيليّة كما الناصرة وأم الفحم. لا أدري من يقف وراء هذا الموقع وكيف اتخذ القرار بشأن "قائمة المدن الفلسطينيّة"، ولكني للأسف لا أستطيع لوم القائمين عليه وأنا أدري أنّ فينا، ومن قيادتنا، من يقول نفس الكلام. نحن نعمل كمنصة للمجتمعات الإسلامية في أكثر من20,000.مدينة في جميع أنحاء العالم
[email protected]
أضف تعليق