اطلعت في المدة الأخيرة مليّا على سيرة حياة وتاريخ المحامي المرحوم حنّا نقّارة "محامي الأرض" كما اشتهر بهذا اللقب آنذاك. كان المحامي حنا نقّارة على قدرٍ كبيرٍ من الفراسة والذكاء والمعرفة الواسعة في مجال الأراضي وحقوق الأقلية العربية في البلاد، وقد ذاع صيته على طول البلاد وعرضها كأحد أبرز المحامين العرب. وإن كنت في مقالتي الموجزة هذه، لا أفي الأستاذ حنا نقّارة حقه، فإني أود أن أنوه بما اتسم به الأستاذ حنا نقارة، كمحامٍ، من خصالٍ حميدةٍ ومزايا رفيعة ما أحوج مجتمع المحامين إليها في عصرنا، يوم مثّل الأستاذ حنا نقارة، في نظري، شرف مهنة المحاماة وأصالتها وهذا الشرف باعتقادي واجب وفرض على كل محامٍ بغضّ النظر عن مجال اختصاصه.

إن أول ما برز في المحامي حنا نقارة عناده وإصراره على الدفاع عن قضيته غير مهادنٍ فيها حتى لو كلفه الأمر عناء العراك القضائي من محكمةٍ لمحكمة ومن قاضٍ لآخر. أقول "قضيته" لأن المحامي حنا نقارة كان يعتبر دائما أن قضية موكله هي قضيته الشخصية، فدافع عنها حتى النهاية بكل بسالة وإخلاص. وفي حين كثرت في أيامنا أخبار أولئك المحامين الذين تخاذلوا في قضايا موكليهم وخانوا أمانة المهنة وآثروا مصالحهم الشخصية على مصلحة موكليهم، لم يسجّل التاريخ يوما ان الأستاذ حنا نقارة تخاذل في قضية ما على حساب مصلحة موكله أو كما يقال باللغة الدارجة "باع" قضية موكله، بل ما زال يذكر حتى اليوم بتفانيه في قضايا موكليه وقضايا شعبه عامة.

لم يُؤثر المحامي حنا نقّارة المال يوما على قضايا موكليه وشعبه ولم يكن المال مطمعه، بل تولى الدفاع عن الكثير من القضايا العسيرة دون أن يتقاضى أجرا عن ذلك، ليثبت بذلك أنّ المحامي إنسانٌ قبل أن يكون صاحب مهنة، وعليه ان يشعر بهموم الناس ومآسيهم، وأن يدافع عن أولئك المعوزين الذين ليس باستطاعتهم ان يؤمّنوا أجر محامٍ يدافع عنهم. وقد تحوّل الأستاذ حنا نقارة بفضل هذه الأخلاق السامية عنوانا لكل الطبقة الكادحة من أبناء شعبنا من العمال والفلاحين وغيرهم. وفي نظري، هذا هو الحد الفاصل بين المحاماة كمهنةٍ للربح عند من يزاولها والمحاماة كرسالةٍ إنسانيةٍ، ووسيلةٍ هامةٍ يحاول المحامون من خلالها الدفاع عن حقوق المظلومين والكفاح من أجل سيادة القانون والعدل في العالم، والنضال لكسر القوالب القضائية التي تميّز بيّن فئات المجتمع حسب القومية أو الدين أو العرق أو الجنس، وإحقاق المساواة بين كل الناس، كأولئك المحامين الذين سلكوا هذه الطريق الصعبة ممن ما زال التاريخ يلهج بذكرهم كالمحامي نلسون منديلا الذي دافع عن حقوق المواطنين السود في جنوب أفريقيا (وأصبح لاحقا أول رئيس من المواطنين السود لجنوب افريقيا عام 1994) والمحامي كلارنس دادو الذي دافع عن حقوق المواطنين السود في الولايات المتحدة أيام التمييزالعنصري هناك، وغيرهم من المحامين الشرفاء في دول أخرى في العالم.

أضف الى ذلك أن الشجاعة كانت ميزة بارزة من ميّزات الأستاذ حنا نقارة كمحامٍ. فلم يكن ليخاطب المحكمة بغير ما يشعر به فعلا وبصراحة تامة حتى لو أنّ هذه الصراحة كانت "تزعج" في أحيان كثيرة هيئة المحكمة التي وقف يرافع أمامها. وقد تكون مرافعة المحامي حنا نقارة عن المفكر بشير البرغوثي امام المحكمة العسكرية في قضية اعتقاله في حينه (كما نقلها لنا المحامي المعروف وليد الفاهوم في كتاب "مذكرات محام فلسطيني- حنا ديب نقارة محامي الأرض والشعب" للأستاذ عطالله سعيد قبطي)، والتي عبّر فيها الأستاذ حنا نقارة بكل صراحة ولباقة عن قلة إيمانه أصلا بعدالة ونزاهة المحاكم العسكرية، حالة نادرة لمحامٍ يخاطب هيئة قضائية بهذه الجرأة والجسارة دون ان يخشى عواقب ذلك. أرى جرأة المحامي في طرح قضية موكله أمام المحكمة بكل صراحة هي من أهم الصفات التي على كل محامٍ ان يتحلى بها، لانه رسول موكله، ولسان موكله، وواجبه في كشف الحقيقة ودحر الظلم يحتّم عليه ان يستميت في سبيل ذلك، لا يلين ولا يضعف. إنّ عدالة القضية والايمان الحقيقي بصدقها ونزاهتها هما المصدر الذي يستمدّ منه المحامي قوته لمنازلة خصمه وهما الدرع الواقية الذي يحامي بها عن حقوق موكله. وفي رأيي، لا تحترم المحكمة أصلا، أو حتى الخصم، محاميا لا يؤمن بقضية موكله او ذلك الذي يترك انطباعا بانه لا يشعر حقا بقضية موكله وانه لا يتولى الدفاع عن القضية إلا للربح الماديّ.

وفي السياق ذاته، لم يقتصر عمل المحامي حنا نقارة على المرافعات القضائية في كل قضية وقضية، بل كان ناشطا ورائدا في العمل الاجتماعي بكل ما يتعلق بقضايا شعبنا مثل قضايا الأرض والمسكن وحقوق الأقلية العربية في البلاد، فاشترك في كل اجتماع ومؤتمر ونشاط ومبادرة في هذه المجالات وأفاد الجميع بخبرته القضائية ووعيه الوطني. وقد كان هذا أسلوبا آخر حوّل به المحامي حنا نقارة المحاماة من هدف إلى وسيلة ومن مهنة إلى رسالة. بهذا رسم المحامي حنا نقارة العلامة الفارقة بين المحامي الذي لا ينتمي إلا لمكتبه والمحامي الذي ينتمي إلى شعبه ومجتمعه عامة، وبين المحامي الذي يرى موكله "زبونا" عابرا والمحامي الذي يرى موكله شعبا، وبين المحامي الذي ينتهي يوم عمله حين يطفئ مصابيح مكتبه في المساء ولا شيء غير ذلك والمحامي الذي لا تنطفئ شعلته يوما في سبيل الدفاع عن المظلومين من أبناء المجتمع وتبقى قضيته هاجسه الأوحد وشغله الشاغل دائما. بهذا تحوّل المحامي حنا نقّارة من محامٍ إلى رمز ومن رجل قضاء إلى رجل مجتمع ومن محام عابر إلى محامي شعب.

لا يترك المرء بعد موته مالا وجاها بقدر ما يترك سيرة يتناقلها الناس بعد موته. فبالإضافة لما تركه الأستاذ المرحوم حنا نقارة من سيرة شخصية زكيّةٍ كإنسان، فقد ترك لمجتمع المحامين أيضا سيرة محامٍ بارزٍ مثّل شرف مهنة المحاماة وأصالتها الى جانب القيم الإنسانية التي تحملها، لتكون سيرته في أيامنا هذه الدليل والمرشد لمن ضلوا الطريق من أولئك المحامين الذين حوّلوا رخصة إلى رخصة للغش وخيانة الأمانة والتآمر والمتاجرة في حقوق الناس وتدمير البيوت والعائلات، فشوّهوا بذلك قدسية هذه المهنة وحقّروها وحطّوا من مكانتها.
أيها الأخوة المحامون، وأيتها الأخوات المحاميات: لتكن سيرة الأستاذ الكبير حنا نقّارة المحامي مثالا ونبراسا لنا جميعا!
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]