في نهاية الأمر ظهر قانون الجمعيات الذي تمّ إقرار إضافات عليه في البرلمان الإسرائيلي مؤخرًا وأثار ضجّة إعلاميّة كبيرة، ظهر كقانون مخيف ذي أنياب إلًا أنه لا يعضّ، وإن عضّ فلا يؤلم وإن آلمَ فلا يسمّم. فرغم كونه فاشيّ المنبع وإرهابيّ المقصد إلّا أن النسخة النهائيّة التي تم التصويت عليها وإقرارها قد تمّ تلطيفها، ولم تشمل – كما كان مقترحًا بدايةً- المركًبات العقابيّة القاسية مثل إلزام الجمعيّات بدفع ضريبة بنسبة عالية على الأموال التي تصلها من دول أجنبية، بهدف ضربها مادّيًّا والإضرار بالعلاقة بين الجمعيات وبين المتبرعين، والمسّ بنجاعة هذه التبرعات لو أنّ نسبة كبيرة منها كانت ستذهب هباء وتدرّ دخلًا على خزانة دولة الاحتلال ذاتها التي تناضل الجمعيات ضدّ سياستها. ولا تشمل النسخة النهائية كذلك إلزام ممثّلي هذه الجمعيات حين دخولهم الكنيست بتقلّد شارة مميّزة بهدف كشفهم أمام الملأ و"فضحهم" أمام عدسات الصحافة والرأي العامّ الإسرائيلي، ثم نزع الشرعيّة عن الجمعيّات "اليساريّة" وتصويرها كطابور خامس مدعوم من قبل أطراف أجنبيّة نواياها مشبوهة، وبالتالي، هكذا أراد المشرّع، سيعاقب المجتمع الإسرائيلي تلك الجمعيّات بنبذها ومقاطعتها واتهامها حتى بالخيانة. فيتقلّص نشاطها "اليساريّ" وينخفض تأثيرها ولربما تختفي من الميدان.

على الصعيد الخارجي، أرادت الحكومة الإسرائيليّة من وراء هذا القانون أن تبعث رسالة إلى دولٍ اوروبيّة بعدم التدخل في الشؤون "الداخلية" الإسرئيليّة، سواء داخل حدود 1948 أو في الضفة الغربيّة معتبرة إياها شأنًا إسرائيليًّا داخليًّا لا يحق لأطراف دوليّة التدخل فيها والتأثير عليها ومراقبة ما تمارسه إسرائيل تجاه الفلسطينيين. وهذه رسالة سياسيّة خطيرة تعبّر عما في يدور في نفوس أصحاب القرار في إسرائيل من نيّة الاستفراد بالشعب الفلسطيني دون مراقبة أو محاسبة (غير موجودة أصلًا) أو حتى معاتبة.

لقد أثارت هذه النقاط جدلًا داخليًّا إسرائيليًّا وتوتّرا مع دول ومؤسسات أجنبية مما أدّى في نهاية الأمر إلى "تلطيف" النّص، وهو على فكرة ليس قانونًا جديدًا وإنما تعديل لقانون قائم منذ 1980 وقد تمّ تحديثة وإضافة بنود إليه مرارًا خلال السنوات المتعاقبة. فالتعديل الحاليّ تمّ حصره في إلزام الجمعيات التي تتلقى معظم ميزانياتها من دول أو كيانات سياسيّة أجنبيّة بنشر هذه المعلومات في الصحافة وفي الرسائل والنشرات الرسمية الصادرة عن تلك الجمعيات وخلال الاجتماعات مع جهات رسميّة إسرائيليّة وتقديم تقرير مفصل عنها كل ثلاثة أشهر إلى مكتب مسجّل الجمعيات وهو الهيئة القانونية المسؤولة عن الجمعيات من مراحل تسجيلها قانونيًّا إلى متابعة ومراقبة عملها وميزانياتها خلال كل سنوات عملها.

فمن الناحية القانونيّة- الجنائيّة لم يتغيّر الوضع كثيرًا. وما تبقّى من هذا الضجيج هو المآرب الأخرى. وهي مآرب سياسيّة نابعة من غرائز الحقد والانتقام، تبثّ رسائل سوقيّة لسان حالها يقول بأنّ من يفضحنا أمام العالم سنفضحه أما الرأي العام الإسرائيلي، وسنفلت عليه كلابنا.
رغم تلطيف النصّ لم يهدأ الجدل. فهناك جمعيّات وتيّارات أسرائيليّة تهتم لصورتها وشرعيّتها في نظر الجمهور الإسرائيليّ فتخوفت فعلًا من دمغها بفضيحة الخروج عن الصف وعار التطرف و"جريمة" مناهضة الصهيونيّة. ومنها جمعيّات كان لها نصيب في الجدل والضغط من وراء الكواليس لتغيير النص الأصلي للبنود المقترحة. ولكن هناك فرقًا بين معارضة القانون لكونه فاشيًّا ومعطّلا للعمل وملاحقًا للنشطاء من ناحية قانونيّة،وبين معارضته من أجل الحفاظ على صورة نقيّة وشرعيّة أمام المجتمع الإسرئيلي. فالجمعيّات الحقوقيّة الراديكاليّة ومن ضمنها الفلسطينيّة الخاضعة للقانون الإسرائيلي والتي تناهض ليس فقط سياسة الحكومة الحاليّة وإنما أيضًا المفهوم العميق للعنصرية الصهيونية والمتجلّي في تعريف الدولة كدولة يهوديّة وما يترتب عن ذلك من ممارسات، لم تكن جزءًا من النقاش الساخن بعد أن أدركت أن تعديل القانون كما عُرض للتصويت لن يؤثر عليها قانونيًّا، ولأنها بطبيعة الحال لا تخشى أن يتمّ كشف عملها أو مصادرها أمام الجمهور الإسرائيلي، لأن هذه المعلومات متاحة اليوم ومنشورة بناء على القانون في صيغته القائمة قبلًا، ولأنّ هذه الجمعيّات كثيرًا ما يصلها، قبل هذا التعديل، تهديدات ورسائل بذيئة من أفراد ومن جهات صهيونيّة عديدة. هذه الجمعيات واعية لدورها السياسي وللثمن المعرّضة إلى دفعه شعبيًّا وقانونيًّا، وهي لا تعمل من أجل استرضاء المجتمع الإسرائيلي وإنما على تحدّي معتقداته وكشف زيف ديمقراطيته وفتح ملفات الجرائم الإسرائيليّة منذ بداية النكبة والمطالبة بالعدالة، وذلك بغض النظر عن تركيبة الحكومة الإسرئيليّة. ومن حظنا الآن أن التيّار الصهيوني الأقل ذكاءً والأخفّ دهاء هو الذي يدير الدولة ويترجم العنصريّة الموجودة أصلًا إلى قوانين مكشوفة. هذه القوانين ليست مفاجئة في جوهرها، وإنما هي وإن كانت مستفزّة في وقاحة إشهارها،تعكس حقيقة المنظومة الإسرائيليّة التي طالما عمِل اليسار الصهيوني على تغطيتها وخلق انطباع مغلوط بأنها دولة قانون وديمقراطيّة وعدالة. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]