بعد تشكيل القائمة المشتركة فُهِمَ أنها تشكلت نتيجةً لظروف ومتغيرات خارجية لا نتحكم بها أو لم يكن للأحزاب العربية ولا المجتمع العربي سيطرة عليها أو تأثير، بصيغة رفع نسبة الحسم. وقد يكون هذا الادعاء صحيحًا إلى حد ما، لكنه لا يعكس الصورة الحقيقية وفيه إجحاف بحق المجتمع العربي والأحزاب العربية، وربما عدم إدراك لأهمية المرحلة المفصلية التي نعيشها، أو لنقل إنها لحظة تحمل طاقات وإمكانيات تؤسس لمرحلة مختلفة، إذا ما استغلت بالشكل الصحيح.
على مدار ال 100 عام الأخيرة لم يتحكم الشعب الفلسطيني لوحده أو بشكلٍ حر لا بمصيره ولا بقراراته السياسية ولا بواقعه السياسي. فمنذ الاستعمار العثماني وبعده البريطاني ومن ثم الإسرائيلي فُرض علينا واقعًا لم نختره، واضطررننا للتعامل معه. وما يهمني هنا تاريخنا الحديث بعد النكبة. ويمكن الإشارة إلى أحداث مفصلية في تشكيل وعينا وتاريخنا.
كانت النكبة المفصل الأول والأبرز، وكانت التهجير، وبمثابة انهيار مشروع الحداثة الفلسطيني، وخراب المدينة الفلسطينية، وخسارة الأرض والوطن وتشرذم الهوية. هُجرنا وتحولنا إلى أقلية ولاجئين. بعدها تحكم فينا حكم عسكري جائر قمعي قرر من يمثلنا سياسيًا. لكن دون أن نتنازل أو نستسلم. فخلقنا بأبداع حقيقي أُطرًا سياسية وحزبية وحركات وطنية. وحافظنا على هويتنا ولغتنا ووجودنا ولم نتأسرل.
المفصل الثاني كان احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وانكشافنا لبقية الشعب الفلسطيني من جديد، وبعدها جاء يوم الأرض. هذا اليوم العظيم أفرز فيما أفرز نضوج الظروف لبروز الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وأبناء البلد ومن ثم الحركة الإسلامية والحركة التقدمية وعودة النبض الوطني والقومي إلى عروقنا.
المفصل التالي كان اتفاق أوسلو وانتشار سراب قيام الدولة الفلسطينية ووهم المساواة بالشروط الإسرائيلية. هذا الوهم شكل خطرًا حقيقيًا على الهوية الوطنية الفلسطينية وعلى الانتماء، واعتقد البعض أننا قد نصبح متساوين حقًا. حينها كانت أشد الفترات خطرًا على الهوية الفلسطينية القومية وعلى الانتماء، لأننا اعتقدنا أننا انتهينا من حمل عبء القضية الفلسطينية وآن الأوان لنتحول إلى مواطنين اعتياديين. لنكتشف في هبة أكتوبر (وهي المفصل الرابع) أن ذلك غير ممكن في ظل مبنى وطبيعة النظام القائم في دولة إسرائيل وأهدافها كدولة يهودية. وجدنا أنه في أفضل الحالات قد نكون على هامش المجتمع والسياسة والاقتصاد في إسرائيل وخارج الحركة الوطنية الفلسطينية. وللتذكير، في كلا الحالتين، أي اتفاقية أوسلو وهبة أكتوبر، حكم في إسرائيل ما يسمى "اليسار الصهيوني" وهو الذي شكل خطرًا حقيقيًا على الهوية والانتماء وأراد حسم مكانتنا الجماعية في البلاد حسب معاييره وشروطه، وهو من قتل شبابنا وتعامل معنا كأعداء. ويعد ليتوسل أصواتنا في كل حملة انتخابية، وبكل وقاحة.
فرفضنا وانتفضنا على المفاهيم السياسية القائمة وعلى الوعي التقليدي وأبدعنا في طرح ديمقراطي قومي نادى بدولة المواطنين وإنهاء الهيمنة الصهيونية، وأعدنا كجماعة، "مسألة الأقلية الفلسطينية" إلى الوعي السياسي الداخلي والإسرائيلي والإقليمي بل والعالمي. لم تعد القضية قضية مساواة بين السكان أو إنهاء العنصرية فقط، بل أصبح هناك "مسألة الفلسطينيين في إسرائيل".
في هذه الأيام أعتقد أننا أيضا نعيش مرحلةً مفصليةً. وفي الواقع هي مفصلية بسبب تعاملنا مع التغيير الذي فرض علينا وليس بسبب التغيير ذاته. وتعــــــــامُلنا مع التغيير جاء على شكل القائمة المشتركة لأننا قلنا كأحزاب ومجتمع، إنه بالرغم من التمايز والتنوع الأيديولوجي الداخلي، والذي ندركه تمامًا، فإننا نتصرف وفقا لتشخيص المصلحة العامة للفلسطينيين في إسرائيل. وقد أعلنا كأحزاب أننا نتحمل مسؤولية جماعية للحفاظ على وجودنا السياسي ونتحمل مسؤولية شعبنا وقضيتنا. والمسؤولية لا تقتصر على عبور نسبة الحسم. فالحفاظ على مصلحتنا الجماعية حتم وجود عمل سياسي مشترك ونضال سياسي مشترك يحافظان على الهوية والانتماء وتحصيل الحقوق الجماعية. والمسؤولية الجماعية تفرض علينا عرض نموذج مختلف لأبناء شعبنا، خاصة في الظروف الإقليمية الراهنة التي تهدد بسحق الهوية العربية والعودة إلى مرحلة ما قبل الحداثة الاجتماعية والقومية. فمن قال أن التهديد على هويتنا وانتمائنا يأتي فقط من قبل المشروع الصهيوني الذي يهدف أصلا إلى شرذمتنا وتحولينا إلى طوائف لكي نفقد الإطار الجامع الذي يتيح بناء حالة سياسية جماعية وطرح مطالب قومية. نعم، هناك تهديد على الهوية والانتماء من قبل المشروع الصهيوني، لكن هناك أيضا تهديد بسبب فشل تجربة الدولة العربية القومية العلمانية وإضاعة الفرصة لإقامة دولة المواطنين في الكثير من الدول العربية.
من هنا، -وهذه رسالة إلى كوادر الأحزاب والتيارات كافة بل ومجتمعنا كله- على مشروعنا السياسي أن لا يقتصر على الرد أو التصدي لليمين الفاشي الديني والعنصري، فالتهديد من كافة الجهات، بل أن الأخطر هو ما يأتي من اليسار الصهيوني. نضالنا ضد المشروع الصهيوني برمته وليس ضد تيارات داخله. نريد تفكيك المشروع الصهيوني من خلال عملنا ونضالنا السياسي لنيل الحريات والحقوق، ونريد إقامة نظام ديمقراطي يكون كفيلا بأنهاء الاحتلال واستعادة الحقوق لكافة فئات الشعب الفلسطيني.
نتحمل المسؤولية أمام أبناء شعبنا ونقول إن التنازل والحل الوسط بيننا مطلوب، وقبول التعددية السياسية والأيديولوجية والاجتماعية والطائفية هي السبيل الوحيد للحفاظ على ما يجمعنا. وإن الجامع القومي أعلى وأقوى من كل شيء، وأهم من كل حزب أو تيار أو أيديولوجيا. لذلك اخترنا القائمة المشتركة وليس الاندماج. فهذا الاختيار وهذه القائمة جاءت لتقول إن نضالنا هو ضد المشروع الصهيوني والآفات الاجتماعية التي ترعرعت في ظله وتغذت بفضل الإقصاء والتهميش ضدنا، ونمت لتخدم احتياجاته وأهدافه.
صحيح أننا لم نتحكم بكافة مسببات هذا التحول لكننا نعمل معًا لنضمن أن تأتي النتائج على عكس ما شاءوا. بفضلكم وبإرادتكم سيتحول هذا إلى حقيقة.
[email protected]
أضف تعليق