لا يوجد بين العروبة والإسلام تناقض، بل تكامل وتناسق .... ولكن العروبة قبل مجيء الإسلام كانت جاهليَّة، وبعد الإسلام أصبحت دولة وحضارة، وقد نزل القرآن على العرب أوّلاً وبلغتهم، وأُشيع في العالم بفضلهم، وقد جاءت في العربيَّة آيات واضحة تذكرها ، وغير ممكن ان يكون هذا العدد من الآيات القرآنية بلا معنى أو مغزى، ونأتي مثلاً بالآيات الآتية:
في سورة الشعراء: "نَزَل به الروح الامين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربيّ مبين (195)".
وفي سورة يوسف: "إنّا أنزلناه قرآناً عربيَّاً لعلكم تعقلون" (2) .
وفي سورة الشوري: "وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربيَّاً لتنذر أُم القرى ومن حولها ....." (7).
وفي سورة الزَّمر: "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون (27) قرآناً عربيَّاً غير ذي عوج لعلهم يتقون (28)".
وفي سورة الزُّخرف: "إنَّا جعلناه قرآناً عربيَّاً لعلكم تعقلون"(3).
وفي سورة فصلت: "تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فُصِّلت آياتُهُ قرآنا عربيَّاً لقوم يعلمون(3)".
وفي سورة طه: "وكذلك أنزلناه قرآنا عربيَّاً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون او يُحْدِثُ لهم ذكراً (113)"
هذه الآيات المحكمات تثبت ان: (1) القرآن نزل في اللغة العربية (2) لأمِّ القرى أي لمكّة أي ألعرب اولاً وعن طريقهم للعالم أجمع (3) بلغة عربيّة فصيحة لا شائبة فيها (4) من أجل إصلاح وإنذار العرب بلغة يستوعبونها، لا بلغة غريبة عنهم، أي انه ارتبط منذ البداية بالعرب. ويتخذ بعض المغرضين ذريعة للهجوم على ألعرب زوراً وبهتاناً باسم الإسلام، ولضرب الخلاف بين العروبة والإسلام ما جاء في الآية 97 من سورة التوبة. "الاعرابُ أشدُّ كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ..." ولكن هذا الطرح المغرض يواجه مشكلتين جديّتين وهما: (1) عدم الإلمام باللغة العربية و (2) عدم الإلمام بالقرآن... فكلمة "الأعراب" لا تعني كل العرب بل تعني البدو، والمقصود ليس كل البدو بل بعض منهم، والآيات التي تأتي فوراً لما أتى تتحدث عن البدو الصالحين "ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قُرُبات عند الله ...." (سورة التوبة، الآية 99).
إذن لا مفنِّد لضرب الإسلام بالعروبة أو العروبة بالإسلام، الا اذا كان شرح الإسلام على ذلك المنطق المشوه، والاستيعاب الشعوبي للإسلام يستعمل لفرض الهيمنة على المسلمين والعرب من الخارج ولتدمير علاقتهم ببعضهم البعض، لذا الاحسن إسلاميَّاً وقوميَّاً ان يتفق الوطنيّون والإسلاميّون، لا ان يختلفوا، لمواجهة ألاعداء المشتركين.
الإسلام السياسيّ:
منذ عشرينيات القرن الماضي ظهر في العالم الإسلامي مفهوم للإسلام، كان قد برز في عهد الخوارج، "الإسلام السياسيّ"، تحديداً لهويته وتفريقاً له عن الإسلام المستنير.
الإسلام السياسيّ يتميز بعناصر رئيسيَّة ثلاثة هي:
1. التأكيد على ان السياسة جزء من الإسلام، وان العمل السياسيّ فرض على كل مسلم.
2. الادِّعاء بان جماعته (وكل جماعة تأثرت به أو انشقت عنه) هي جماعة المسلمين، وما تقول به هو الإسلام الصحيح، وهو أمر يعني ان من ليس من هذه الجماعة ليس من جماعة المسلمين بل هو خارج عن الإسلام، وربما كان مهدر الدم والمال والعرض، كما يعني ان من لم يعتنق كل مبادىء الجماعة، بلا نقاش أو جدال أو تفهّم أو تعديل، يعد مرتدَّاً عن الإسلام يستوجب عقاب المرتد.
3. فرض الآراء والقرارات والاتجاهات بالقوَّة والعنف والاغتيال والحرب الذين يسمونه زوراً جهاداً في سبيل الله (انظر كتاب الإسلام السياسيّ للمستشار محمد العشماوي، مؤسسة الانتشار العربي بيروت لبنان الطبعة الخامسة 2004 ص 412).
عندما نتحدث عن "الإسلام السياسيّ" المقصود هو: "الاحزاب السياسية التي تتبنّى برنامجاً إسلاميَّاً وهي تحرص على الوصول الى سدّة الحكم والمحافظة عليها.
هدف الحزب السياسيّ اذن هو الوصول الى سدّة الحكم بغض النظر عن برنامجه وعما كانت آليته: عنيفة أو برلمانية سلميّة او حربيّة، وبغض النظر عن شعاراته اذا كانت قوميّة أو إسلاميّة أو يمينيّة أو يساريّة أو ليبراليّة أو غيرها.
من جهة أُخرى نحن القوميين ندعو إلى إسلام أَعم وأوسع وأعرق من هذه الحركة السياسية أو ذلك الحزب، نحن نتمسك بتراث وهوية رافعة للنضال ضد الظلم، ولا نحتكر الإسلام لنا، لان الإسلام ليس حكراً على أحد، ولكن تفسيرنا له يحمل صبغة قوميّة، التي تعبر عن أوسع أطياف الأمَّة ومنفعتها، صبغة عامَّة الشعب والمساكين والفقراء وأغلبية أمتنا العربية، لذا لا بد ان نفرّق دائماً ما بين "الإسلام السياسيّ" و"الإسلام الثقافيّ".
الفرق بين "الإسلام السياسيّ" وبين "الإسلام الثقافيّ":
"الإسلام السياسيّ" هو التفسير السياسيّ للإسلام حسب هذه الجماعة أو ذاك الحزب، أي ان بوصلته حزبيّة وسياسيّة في النهاية.
اذن حركة "الإسلام السياسيّ" هي ظاهرة: الشخصيات والتنظيمات السياسية ذات الشعار الإسلامي.
اما "الإسلام الثقافيّ": فهو الهوية لنا كأمَّة عربية، دون النظر لأي خلاف سياسيّ، وهو مكون جديّ في فكرنا وفي حياتنا الحياتية اليومية كمجتمع عربيّ، دون ان يصبح حزباً سياسياً يرفع شعارات إسلاميّة ويريد الوصول الى سدّة السلطة. ومن هنا نصل الى الإسلام الثائر.
الإسلام الثائر:
عندما نفسر الإسلام هكذا، كرافعة للنهضة والوحدة والتحرير، فأننا لا نتهرب من الإسلام، بل ننزهه عن الامور الصغيرة، نحن نشدّد على البعد الإسلاميّ، ولكن نشدّه بموقف وطنيّ وقوميّ، وإلا فما هي حركات المقاومة: حزب الله أو حماس أو الجهاد بدون مقاومة ذات أهداف وطنية وقوميّة ومن الجهة الاخرى فأن الطابع الاسلاميّ من دون بوصلة قوميّة ووطنيّة واضحة هو الذي يتيح لشيوخ الحكّام، أمثال الشيخ القرضاوي، ان يستخدموا الإسلام في خدمة الطرف الصهيونيّ الامريكيّ بحجَّة التشديد على ألشعائر.
اذن، الإسلام الثائر هو مشروع لإعادة صقل جديد للعقل العربيّ كما انه ثورة عارمة ضد الاحتلال الاجنبيّ ومحاولاته الدائمة لنسف ولتقطيع الاقطار خاصّة العربيّة.
الإسلام الثائر هو مشروع (1) قوميّ: اي انه يهدف الى إتحاد الامَّة العربية وتحريرها من الاخطبوط الاجنبيّ. (2) جذريّ: يرفض الواقع وكل مشاكله ويعمل من اجل تغييره الى الافضل. (3) اجتماعيّ: أي انه يقف مع اكبر أطياف الأمَّة من اجل محاربة الظلم الإجتماعي، سواء ارتبط بالطمع أو الفساد أو الاستغلال أو العمالة للخارج ومن اجل تحقيق العدالة الاجتماعيَّة. (4) نهضويّ: أي انه لا يرى التطور الاداريّ والتقنيّ والاقتصاديّ في تضاد مع الإسلام، بل يرى الإسلام وسيلة واداة ورافعة لتحقيق ذلك التقدم بالصورة التي تصبّ في مصلحة الامَّة كافة.
المفكرون القوميَّون والإسلاميّون الميّالون للعروبة حاولوا دائماً إيضاح العلاقة الوطيدة بين العروبة والإسلام ولا بد من اعادة الاهتمام لتلك العلاقة.
الإسلام متداخل مع ثقافتنا العربية وحياتنا الى حد لا يمكن معه فصل الإسلام عن العروبة أو العروبة عن الإسلام.
الخلاصة هي ان الإسلام الثائر كفكر أو كإتجاه أو كتفسير يتبناه اليساريّون والقوميّون يبقى الضرورة الكبرى لتحقيق الثورة العربية، والتفاهم بين رموزها، ولبث الثورة في الجماهير العربية المؤمنة في العالم العربي .... والخلاصة الاهم هي ان الإسلام كغطاء ثقافيّ للامَّة يظل أكبر من هذا التيار السياسيّ الإسلاميّ أو تلك الحركة السياسيّة الإسلاميّة او غير الإسلاميَّة.
الغرب الذي يمثل فرق تسيطر وتقود السرطان الإمبريالي في العالم، لا يحارب الدين عندما يتماشى مع مصالحه.
وأحد الأدلّة على هذا "العلاقة التي اقامها مع الإسلاميّين الافغان ضد الاتحاد السوفياتي في حينه والتسهيل لحركة الإسلاميّين في عهد أنظمة عربية متواطئة مع أمريكا عندما كان القوميّون يلاحقون وكما يجري الان من تنسيق بين الإسلام السياسيّ في العالم العربي ومرسي في مصر مع الامريكان في عهد "الربيع العربيّ التكفيريّ".
أمريكا لا توجد لديها مشكلة مع الإسلاميّين الذين يسكنونها والذين يركزون على الشعائر كالزكاة والحجاب والصلاة والذقون، ما داموا لا يشكلون خطراً على الأمور الحقيقية التي تمس مصالح الامبرياليّة.
هذا بالاضافة الى الشيوخ الذين يفتون الفتاوى بها يفنّدون السلام مع اسرائيل ويخدمون مصلحة امريكا وكيف يعطون المسارح.
اذن المشكلة في الإسلام الثائر بالنسبة لامريكا وللغرب هي نفسها المشكلة في الحركات القومية والتحرر الوطنيّ، وهي ان الإسلام الثائر يضرب المصالح الاستراتيجيّة والسياسيّة والاقتصاديّة لقوى الهيمنة الغربيّة وعملائها في الداخل.
ولو قام الإسلام الثائر بالتخلّي عن بوصلته السياسيّة والاجتماعيّة فإنه لا يعود مشكلة بالنسبة للامبرياليّة ، في الوقت الذي يتوقف فيه ان يكون ثوريَّاً، وبعدها لا تعد مشكلة من ان تتكاتف امريكا مع من يدعون الإسلام لشن عدوانها على العراق وكما يحدث الان في سوريا وفي مصر وفي ليبيا وفي تونس ما داموا يسهلون العدوان، أي يتماشون مع مصالحها السياسيّة والاقتصاديّة وغيرها.
الإسلام خارج هذا النموذج الوطنيّ والقوميّ يصبح إسلاماً غير ثوري ... اي ان الإسلام الثائر هو إسلام برنامج التحرر القوميّ والاجتماعيّ، خذ مثلاً الشيخ عز الدين القسّام كان من مؤسسي حزب الاستقلال العربيّ الذي برنامجه كان قوميّاً عربياً، في فرع حيفا في سنوات الثلاثين من القرن الماضي وهذا لم يتناقض مع كونه شخصيّة دينية، وعمر المختار وعبد القادر الجزائري كانوا منارات وطنية ضد الاحتلال اولاً، ولذا حاربهم الاستعمار، وقد كان في فترتهم من الإسلاميّين الذين كانوا على استعداد للعمالة مع الاحتلال فلم يعلن الاحتلال عليهم حرباً لا دينيّة ولا غيرها ، لانهم كانوا جزءاً من تحقيق هدفه.
وفي النهاية من وجهة نظر الشعوب الضعيفة والمحتلة، تصبح المقاومة، أي رفض الخنوع للمحتل والاصرار على الثقافة الاصيلة شرطاً من شروط المقاومة الى جانب الامور الاخرى، كالاسلحة والموقف السياسيّ.
وهذا ما يفسر الإسلام المقاوم والثائر في بلادنا كما يفسر الامر العكسيّ لخلق إسلام غير جهادي تحاول الامبرياليّة ان تضيئه في إعلامها ضد المقاومة، مما يؤكد ان دوافع الامبرياليّة ليست ثقافية بل من أجل مصالحها فقط ولكن المعركة السياسيّة تظل على مرجعيّة الإسلام.
[email protected]
أضف تعليق