في السادس عشر من شهر حزيران الجاري للسنة الرابعة عشر بعد الألفين من ميلاد المعلم يسوع المسيح سيجتمع مطارين الطائفة الملكية الكاثوليكية (السينودوس «المقدس») في لبنان لاختيار مطران لأبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل خلفا للمطران الياس شقور الذي استقال من المنصب في شهر شباط المنصرم بعد أن كَثُرَ التذمر من سلوكه بين أبناء الأبرشية، وقد كانت فترة خدمته من أسوأ ما عرفته الأبرشية حتى اليوم.

لدى طائفة الروم الكاثوليك اليوم أكثر من ثلاثين مطرانا ما بين سالك في الخدمة ومتقاعد أو نائب بطريركي (هذا ما علمته من أحد قدماء الكهنة ولم أجد في موقع البطريركية العدد الدقيق)

سألت نفسي:

«من ذا الذي يرشح الكهنة لهذا المنصب؟ وما هي المزايا التي يجب أن يتحلى بها الكاهن ليكون جديرا بهذه المسؤولية الجسيمة؟ وهل يخضع لاستجواب من قبل لجنة مختصة من غير رجال الدين لكي نعرف إذا ما كان جديرا بتبوّأ هذا المنصب والقيام بتلك الخدمة على أتم وجه؟ (كما يخضع الذين يرشحهم الرئيس الأمريكي لمناصب هامة لأستجواب أعضاء الكونچرس). ما الذي يدور بخَلَدِ كل واحد من هؤلاء المطارين عندما يمنح صوته لأحد المرشحين، وما الذي يجعله يفضِّلُ كاهنا على آخر ليكون مطرانا لأبرشيتنا التعيسة؟ ما هو دور العلاقات الشخصية أو الإغراء والإغواء والترهيب والترغيب؟».

جالت هذه الأسئلة في خاطري لما عاينته وسمعته في الخمسة عقود الأخيرة من تصرفات المطارين الذين يضمن لهم هذا المنصب بأن يكونوا من الذين «يَسأَلون ولأ يُسأَلون»، فبعد أن يكون الواحد منهم كاهنا بمرتب محدود ويكون خاضعا خضوعا شبه تام لمطران أبرشيته يصبح ما بين غمضة عين وانتباهتها صاحب الأمر والنهي والعقد والحل في الأبرشية التي يولّى عليها في قصر أو على الأقل قُصَيرٍ يحيط به الخدم والحشم الذين يسهرون على راحته ويقتني ما شاء من السيارات الفارهة، ويسافر في مقصورة الدرجة الأولى في الطائرات، وكل ما زار رعية تقام على شرفه المآدب العامرة بكل ما لذ وطاب احتفاءً بقدوم سيادته والكل يتنافس للتقرب منه ففي يديه مفاتيح الملكوت ومفاتيح خزائن الأبرشية معا، فالمقربون المحظوظون ينعمون بنعيم الدنيا والآخرة، لأن قوانين الكنيسة الشرقية تبيح له التصرف بعقارات الوقف والمدارس وغيرها تصرف المالك بملكه فيبيع ويؤجر ويرهن ما شاء بالثمن الذي يرتأيه دون حسيب أو رقيب وهكذا تبخر العديد من الأوقاف في أبرشيتنا دون أن يعلم أحد حق العلم حتى يومنا هذا ماذا كنا نملك وكم بقي لنا منها. والأمر لا ينتهي عند هذا الحد لأن منصبه يتيح له أن يفصل من يشاء من مديرين ومعلمين وموظفين في مدارسنا وأن يعين بدلا منهم من يشاء من الذين نالوا عطفه ورعايته دون غيرهم فانهار مستوى التحصيل العلمي فيها بعد أن كانت قِبلة الطلاب من جميع الطوائف ومن كل حدب وصوب، كما أن معظم الكهنة يخشونه ويطلبون رضاه لأنه يستطيع أن ينقلهم من رعية إلى أخرى حسب ما يشاء، فهو الذي يدفع أجورهم ويتحكم في لقمة عيشهم ويستطيع أن يحوّل حياتهم إلى جحيم إذا غضب على أحدهم فينفيه إلى حيث شاء.

الأسوأ من ذلك كله أنه يستطيع التوجه إلى أصحاب النوايا الحسنة والضمائر الحية في داخل البلاد وخارجها ويستجدي منهم التبرعات باسم المؤمنين القابعين في الأراضي المقدسة ويودع تلك الأموال في حسابه الخاص فيشتري بها من شاء من أراض وعقارات باسمه الخاص وكل ذلك لأن القوانين البائدة أي قوانين «أمّنا» الكنيسة المقدسة تسمح له بذلك.

سؤال آخر يتبادر إلى الذهن:

ما هي نسبة تلاميذ المسيح الحقيقيين من بين الإكليروس؟ بطبيعة الأمر لا أحد يستطيع أن يجيب الجواب الدقيق على هذا السؤال، ولكن من الذي عاينته في الخمسين عاما الأخيرة، أي منذ بلغت أشدي، هم قلة قليلة، أما الغالبية العظمى فأقل ما يقال عنهم أنهم ولّوا يسوع المسيح ظهورهم وخانوه وتنكّروا لرسالته ولا هم لهم سوى اكتناز ما يتيسر لهم ولأقاربهم وكأنهم ذئاب تعيث فسادا حيث ما حلوا ولم يزرعوا في حقل الرب سوى الزؤان والأشواك ولم يغرسوا سوى الأشجار العقيمة التي قال عنها يسوع ما قاله.

الوجود المسيحي في الشرق برمته مهدد بالزوال ومن يرى ما يحدث منذ عهد بعيد لا يسعه إلا أن يقول بأن الزوال الكامل أصبح وشيكا، وما حدث في العراق خير دليل وشاهد حيث أن معظم المسيحيين اضطر للهرب من وطنهم لينجو بنفسه بعد أن أصبح تفجير الكنائس والاعتداء على الأشخاص والأملاك أمرا شائعا وما من نصير، وما يحدث في سوريا لا يقل فظاعة. صحيح أن جميع الطوائف تعاني من الاعتداء على الأبرياء لكن الوجود المسيحي هو الوحيد المهدد بالزوال لأن المعتدي على المسيحي في الشرق لا شيء يردعه في غياب سيادة الدولة وهيمنة قانون الغاب فنحن لا نملك جيوشا، وليس لدينا عصابات مسلحة، أما أن يكون بلاؤنا من داخلنا فهذا مما يعجّل بتقويض وجودنا وفنائنا عن قريب، أما ترون أن عدد أبناء الأبرشيات من جميع الطوائف يتناقص باستمرار في كل مكان؟ الكثير من المسيحيين يقيمون في أوطانهم على مضض، لأن الهجرة غير متيسرة لهم فهل لديكم علم بهذا؟

كان لأبرشيتنا مطران رعاها ما يقرب من أربعين عاما فازدهرت أيما ازدهار حتى أن بعض رعايا إخوتنا من الروم الأرثوذكس تحولوا إلى الكاثوليكية لما رأوا من حسن رعايته الأبوية المخلصة وإنجازاته العمرانية الباهرة وكان أشبه الناس بالمسيح خَلْقاً وخُلُقاً كما قال شاعرنا الكبير وصديقه الحميم خليل مطران عندما هنّأه بيوبيله الفضي:

بورك في خُلقك المليح يا أشبه الخَلق بالمسيح
فأين نحن من هذا كله؟
حتى دير المخلص الذي خرج منه العديد من العظماء من الكتاب والشعراء والخطباء أمثال المطران الحجار والأب نقولا أبو هنا، الذي ترجم حكايات لافونتين إلى العربية شعرا مدهشا، أصبح اليوم ظلا باهتا لماضيه المجيد، كان للمسيحيين في الشرق الفضل الأكبر في النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فلماذا تقلص وانحسر هذا المد الحضاري الفكري البنّاء ومن هو المسؤول عن ذلك؟

بعض الجواب ولا أقول كله، تجدونه عند أحد عظمائنا، المرحوم الأب نقولا الصايغ الرئيس العام لدير المخلص في القرن الثامن ومن أهم بناة مجدنا في الماضي حيث يقول في مستهل إحدى قصائده:

كَثُرَ العِثارُ بعَثرةِ الرُؤَساءِ وغَوَى الصِغارُ بِغرَّة الكُبَراءِ
لمَّا رأَيتُ الرأسَ وَهوَ مُهشَّمٌ أَيقنتُ منهُ تَهَشُّمَ الأَعضاءِ
إذا استمر الحال في أبرشيتنا على ما هو عليه في العقود الأخيرة من فساد وقدوة سيّئة فلن تقوم لنا قائمة أبدا ويكون السينودس الذي سيلتئم في عين تراز بعد أيام قد دق المسمار الأخير في نعش أبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل، هذا الجليل الذي بدأ به يسوع رسالته ومنه اختار أول تلاميذه وكان منه أول المؤمنين به، يبدو أنه لن يبقى له فيه أتباع عما قريب.
لست أدري متى ومن سن قوانين الكنيسة، ولكني أراها تتناقض وتعاليم المسيح وسيرته، حبذا لو فرضت الكنيسة على كل من ينوي أن يكون خادما في حقل الرب أن يحفظ ما كتبه جبران خليل جبران عن ظهر قلب فقد أدرك هذا الكاتب والشاعر العظيم سر رسالة يسوع المسيح على حقيقتها (ولذلك ناوأه الكثير من رجال الكنيسة في ذلك الوقت)، ومن يقرأ ما جاء في كتابه "يسوع ابن الإنسان" يعلم حق العلم أن هناك بونا شاسعا بين سيرة المسيح وبين سيرة معظم رجال الكنيسة اليوم وفي الأمس.
حان الحين وآن الأوان لأن نغيّر من قوانين الكنيسة وأنظمتها التي أكل الدهر عليها وشرب، فالماء الراكد يصبح آسنا لا يصلح للشرب، والماء الجاري هو علامة التجدد، ولنأخذ العبرة من برلمانات الدول المتحضِّرة التي تعيد النظر باستمرار في دساتيرها وقوانينها لكي تتناسب مع التطور والتشعب في مناحي الحياة.


كلمة «سينودس» كلمة يونانية الأصل، σύνοδος، مصدرها كلمتان، كلمة سُنْ σύν ومعناها، «معا» وكلمة «هودوس أو أودوس» ὁδός ومعناها طريق، رحلة، أو ممرّ. وتعني جمعية أو مجلس أو لقاء المطارين في الكنائس عامة والكنائس الشرقية الأرثوذكسية والكاثوليكية، خاصة في العصور الحديثة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]