ودعت شفاعمرو قبل نحو الشهر أحد رجالاتها المثقفين المميزين، من تولى مهمة قيادة مسيرة التربية والتعليم في مدينة شفاعمرو، من خلال منصبه مديرا لقسم المعارف في البلدية على مدار ثلاثة عقود، انه المربي المرحوم عبد الرحمن صديق (أبو رامي)، وهو الذي نما في حديقة التربية والتعليم وبقي وفيا لها، وعزز وجوده بالدراسة العليا مع نظرته الثاقبة ووعيه بأهمية هذه الرسالة حضاريا على مستقبل الشعب والمجتمع.
كثيرون كتبوا، ولا شك أن أبا رامي يستحق أن يكتب عنه آخرون، وكي لا أكرر ما قاله وكتبه غيري، فاني سأحصر كلمتي عنه بالعلاقة الشخصية الانسانية التي ربطتنا معا، وخاصة منذ أن زاملته في المدرسة الابتدائية بعدما كنت تلميذا له من قبل.
توقفت والدتي عند اسم عبد الرحمن صديق، وأنا أستعرض لها أسماء زملائي الذين باشرت العمل معهم مدرسا فتيا في المدرسة الابتدائية "ب" والتي حملت فيما بعد اسم المرحوم "جبور جبور" رئيس بلدية شفاعمرو الثاني، قائلة: هل تعرف أن عبد الصديق هو ابن خالي؟ ولمحت في عيني الدهشة والتساؤل، فاستأنفت كلامها قبل أن تسمع سؤالي، وروت لي بعفويتها وطيبتها القصة. فهي نشأت وترعرت في حي "المكتب" كما عرف نسبة لمكتب الحكم العسكري الذي تواجد في حارتهم، وتحول فيما بعد الى مدرسة "المكتب" أيضا، هي ابنة المرحوم ميخائيل اسطفان، وفي نفس الحارة يسكن المرحوم يوسف صديق (ابو صالح) مع عائلته، ولأن العلاقات بين الجيران والأهل لم تعتمد على الانتماء الطائفي آنذاك، فقد تداخلت حياة أهلها من مسيحيين ومسلمين ودروز وعاشوا كأنهم أبناء بيت واحد وعائلة واحدة، ولهذا لم يكن غريبا أن تنادي جدتي أبا صالح بكنية (خيّا) وهو يناديها (خيتا)، وهكذا لم تعرف والدتي واخوتها أبا صالح ولم ينادوه إلا (خالي) وأولاده ينادون جدتي أم اسطفان (عمتي). ولما أخبرت زميلي وصديقي عبد الرحمن بالحادثة حتى طار فرحا، وكان في كل مناسبة يحملني السلامات لابنة عمته أم ابراهيم ووالدتي تحملني السلامات لابن خالها، وهكذا واظب على هذه العادة حتى أواخر أيام حياته، فكلما التقينا يسألني عن ابنة عمته، وكذلك شقيقه العزيز صالح (ابو رياض) أمد الله في عمره. وتوطدت العلاقة بيننا في المدرسة ووجدت من الأستاذ عبد الرحمن كل تشجيع وتأييد، رغم أنه كان نائبا للمدير وأنا كنت عضوا نشيطا وفعالا في لجنة المعلمين، فكان يحترم دوري ونشاطي ولم ير فيه تناقضا مع عمله ودوره كشريك في ادارة المدرسة، ومن هنا خبرت أولى الخصال العظيمة بأبي رامي وهي احترام الانسان الآخر حتى لو اختلفت معه في الموقف أو الرأي، وهذا سآتي عليه لاحقا أيضا.
وبعدما ارتقى الأستاذ عبد الرحمن وتسلم مهمة إدارة قسم التربية والتعليم في البلدية وبجدارة، لم تنقطع علاقتنا ولم تتأثر بالكرسي الذي وصل إليه، على عكس غيره ممن وصلوا الى الكرسي فأصيبوا بداء التعالي والتكبر وقطعوا علاقات وطيدة لهم مع أشخاص قريبين. وهكذا ازداد أبو رامي تواضعا وسما في عيون معارفه وأصدقائه. وكم كان يسعد بملاقاتي عندما أزور دار البلدية ويدعوني بكل رحابة صدر لدخول مكتبه لتبادل الحديث والأفكار، وكان يهتم بأن يستمع لرأيي ورأي الآخرين أيضا، فهو كان على إدراك بأن سداد الرأي يأتي من خلال تلاقح الأفكار وتبادل الآراء، وحقيقة لم تكن آراؤنا بعيدة عن بعضها. وعندما عملت في الصحافة وجدته يرتاح جدا لي ويدلي بتصريحاته لي بكل جرأة وشجاعة، حتى لو تعارضت مع أفكار الرئاسة أو السلطة البلدية، وعندما أشير له بذلك، كان يلوح بيده ويطلق كلمته الشجاعة التي تدل على استقلالية تفكيره حتى من موقعه كموظف كبير في البلدية عليه التزامات، ولأنه كان شجاعا وجريئا، فهو لم يتوقف هنا في علاقته معي، بل أنه وكما أذكر مرت فترة صعبة فرضت فيها عليّ شبه مقاطعة رسمية في دوائر البلدية، ولم أكن زائرا مرغوبا به، أثناء عملي الصحفي نظرا لمقالاتي التي كنت أنشرها أو المعالجات الاخبارية التي لم ترق لأصحاب ذوي الشأن، وأؤكد هنا أن الواجب الأخلاقي يحتم علي ذلك، بأن أذكر أن الموظف الوحيد الذي استمر في استقبالي علنا وفتح مكتبه –الذي كان في قلب المكاتب البلدية- هو المربي والمثقف عبد الرحمن صديق، مثبتا في ذلك حقيقة المثقف الذي لا يخضع للسلطة، ويعرف كيف يوازن بين واجبه المهني وحرية ضمير الانسان المثقف فيه.
وكم فرح عندما أهديته كتابي الأخير " عجايب يا صندوق" وبعد أيام اتصل بي ليخبرني أنه كتاب مراجعة تقريظية للكتاب ويريدني أن أطلع عليها قبل أن ينشرها، فأكبرت به ذلك واعتذرت منه أنه لا يمكن لي أن أراجع مادة كتبها عني، وأعربت له عن ثقتي فيما يكتبه دون الاطلاع عليه، اضافة إلى أنه لا يجوز لي الاطلاع على مادة كهذه قبل نشرها، إلا أنه أصر وفعلا جلسنا ورجعنا المادة معا. ولا أنسى اهتمامه بالأمسية الثقافية التي عقدت حول الكتاب وحضورها له وسروره بها.
وأكثر ما يحزنني في رحيل أبي رامي أني كنت قد التقيته قبل شهر ونيف من يوم وفاته، في مكتب الصديق المشترك الأستاذ تيسير أشقر والذي يحمل نفس الكنية (ابو رامي) وقد جمعتني بهما زمالة المدرسة وصداقة الحياة والقربى، فأبو رامي أيضا ابن خال أمي (قرابة دم) وكثيرا ما التقينا هناك، واستشرته في مشروع توثيقي اجتماعي أنوي الشروع به، لكن ينتابني تردد ما نحوه وصارحته به مستأنسا برأيه، فما كان منه إلا أن أعجب بالفكرة وشجعني على ذلك، وعندما عرضت عليه عقبة أخرى، لم يتوان أو يتأخر في الاقتراح أن أبدأ المادة معه ورحب بالفكرة أي ترحيب، وفعلا شعرت براحة بعد تشجيعه واتفقنا على نلتقي خلال فترة وجيزة، لكن المرض عاد وهاجمه وغيبه الموت سريعا. ومن هنا فاني أعتبر رحيل صديقي المثقف عبد الرحمن صديق خسارة شخصية لي، وربما تؤدي الى وأد تلك الفكرة إلى أن أجد من هو شبيها بأبي رامي ليعود ويحييها.
إن رحيل أبي رامي الجسدي المبكر عنا، أكد أن أعمال الانسان هي التي تخلد اسمه في مجتمعه، وكم يصدق قول الشاعر فيه:
بَلِيَت عِظامُكَ والصّفاحُ جديدةٌ ليسَ البِلَى لِفعالِكَ المشهُورِ
نعم بليت عظام راحلنا الأستاذ عبد الرحمن صديق في لحده الطري، لكن لا يمكن لفعاله الجمة والمحفورة في الذاكرة الشفاعمرية، أن تبلى رغم مرور السنين والعهود، فهي باقية شاهدة على عظيم أعماله وأفكاره ومآثره في مجتمعنا وبلدنا.
[email protected]
أضف تعليق