مع انتهاء الامتحانات النهائية للمدرسة يخلع أطفال غزة حقائبهم المدرسية ليستبدلوها بعربة جر معدنية اللون يتجولون فيها في الأسواق، بحثاً عن زبون يتسوق ليحملوا عنه أكياسه، وآخرون يتجولون بعلبة تضم بين زواياها الأربع قطع البسكويت أو الشوكولاتة أو العلكة ليدور بين السيارات أو على شواطئ البحر لبيعها أملا في توفير بعض المال.
هو مشهد لا يغادر عينيك في أي شارع من محافظات قطاع غزة، عندما تذهب الى شاطئ البحر تجد أطفالاً تركت أشعة شمس الصيف الحارقة بصمتها وبقوة على بشرتهم لتجعل لونها قمحياً محروقاً يقطعون حديثك العائلي ليعرضون بضاعتهم المختلفة بين الحلويات والبسكويت ليحصلوا في نهاية يوم عملهم المرهق بضعة شواقل تسد حاجات عوائلهم الفقيرة.
الطفل ماهر صالح (12 عاماً) يحمل أكياس الشيبس على ظهره النحيل، وبيده علبة الشوكلاتة يجدف بقدميه بين رمال بحر يجول بين المصطافين على شاطئ بحر الشيخ عجلين ليبيع ما معه يقول لـ "أنباء موسكو" "بدأت بالعمل من بداية العطلة حتى أساعد ابي ولكي أشتري ملابس للعيد لي ولإخوتي الأحد عشر".
صالح الذي يعمل والده سائقا على سيارة مهترئة والميكانيكي يركبها أكثر من أبيه على حد تعبيره، يتابع حديثه قائلاً "بسبب التصليح المستمر لها راكمت الديون على عاتق أبي"، مشيراً إلى أن دخل السيارة لا يكفي لسد وتلبية احتياجاتهم اليومية وأن كل أشقائه الخمسة يعملون في ذات المهنة لكن المختلف بينهم هو نوع السلعة التي يبيعونها .
الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم عشرة أعوام خليل أسعد وأحمد المصري وأشرف الفول يستيقظون من نومهم مع بزوغ أشعة الشمس الأولى ليجروا عرباتهم المعدنية التي توجد داخل المحلات والسوبر ماركت، متوجهين بها الي سوق الشيخ رضوان، حيث عملهم الذي ابتكروه وهو التجول مع المتسوق وحمل الأشياء التي يشتريها مقابل شيكل أو اثنين حسب المسافة والمدة التي يقضيها مع الزبون.
أسعد بين لـ "أنباء موسكو" أن ظروف والده الاقتصادية الصعبة هي التي أجبرته على هذا العمل، وقاطع حوارنا زميله في العمل المصري ليقول: "من عملي أخرج مصروفي وأصرف على نفسي وهيك أكون وفرت على والدي وأيضاً أستغل وقت الفراغ في إجازتي بدلاً من أن أقضيها باللعب في الشوارع ".
ويشير أسعد إلى أن معظم أيام الأسبوع يكون العمل خفيفا حيث لا يجمع فيه سوى خمسة شواقل، بينما ينشط في يوم الجمعة كثيراً حيث يكثر الزبائن لأنه يمثل يوم التسوق الأسبوعي للغزيين.
في حديقة برشلونة غرب مدينة غزة تعالت هتافات كل من الطفل محمد عرابي (10 سنوات) وابن خالته الطفل علي النمر (9 سنوات) عندما لوح لهم أحد المتنزهين بأنه يريد شراء الذرة المسلوقة الطازجة، فأخذ محمد يجري منادياً بعلو صوته "هينا جايين" ليحجز الزبون بينما يتبعه علي وهو يحضن الدلو الذي يحتوي أكواز الذرة.
الطفلان يعملان في فترتين صباحية ومسائية دون فاصل بينهما، فالفترة الصباحية تبدأ عندهما من الساعة السابعة صباحاً وحتى الرابعة عصراً يبيعان خلالها الذرة في حارتهما، ومن ثم ينتقلان مع الأخ الأكبر عرابي ابن الثالثة عشر ربيعاً الى حديقة برشلونة فيوقدان النار على أكواز الذرة النية على مدخل الحديقة.
وبعد نضج الأكواز يذهب الصغيران بها الى داخل الحديقة لبيعها، وهكذا حتى نفاذ الكمية كلها ويستمران في البيع أحياناً حتى الساعة الثانية عشر حيث يبدأ يوم جديد وهما لا يزالان يجوبان الحديقة مراراً وتكراراً بحثاً عن مشترين، بالرغم من أن الربح الذي يحصدانه قليل ومحدود للغاية.
الطفل النمر يقتنص الفرصة أحياناً للعب في الأراجيح في حال انتهائهم من بيع الكمية التي بحوزتهم ليعود في هذه اللحظات إلى حياته الأصلية والطبيعية كما كل الأطفال الآخرين.
أما الطفل عرابي فيقول: "أنا لست صغيراً لألعب، فقط ألعب في العيد "عندما سألناه بماذا تشعر عندما ترى أقرانك يلعبون بالأراجيح، مبيناً في الوقت ذاته أن كل إجازة صيفية له ينزل إلى العمل حتى يساعد عائلته.
المحامية سعاد المسني أوضحت في حديثها مع" أنباء موسكو" أن قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2004 في مادة (14) يحظر تشغيل الأطفال قبل بلوغهم سن الخامسة عشرة، ونفس المطلب موجود في قانون العمل الفلسطيني .
وأطلقت جمعيات أهلية في غزة حملة إعلامية تحت مشروع "محاربة ظاهرة عمل الأطفال في الأراضي الفلسطينية المحتلة" بهدف حماية الأطفال من خطر الانخراط في سوق العمل في سن مبكرة.
فرج مبارك رئيس مجلس إدارة جمعية الوداد للتأهيل المجتمعي أكد لـ "أنباء موسكو" أن الهدف من الحملة هو تعزيز الوعي المجتمعي لدى الفئة المستهدفة حول ظاهرة عمل الأطفال كمشكلة اجتماعية تحتاج إلى دراسة من جميع النواحي، والحد منها من خلال تسليط الضوء على خطر هذه الظاهرة في المجتمع، وتحديد أسبابها وجوانبها السلبية وأبعادها القانونية والاجتماعية والاقتصادية وسبل محاربتها.
بدورها أشارت سلوى ساق الله منسق المشروع إلى أن المشروع يسعى إلى تعريف وتوعية المجتمع والجهات المحلية المعنية والرسمية والمؤسسات الإعلامية على مختلف أشكال مفاهيم وأبعاد ظاهرة عمل الأطفال وتوظيفها كقنوات لنشر وزيادة الوعي في المجتمع بشكل عام، ولدى الأطفال وأرباب العمل بشكل خاص حول خطورة هذه الظاهرة.
ويبقى هؤلاء الأطفال وغيرهم ضحية ظروف لم يصنعوها ولكنها فرضت عليهم بسياسة الأمر الواقع كالحصار والبطالة والفقر.
[email protected]
أضف تعليق