في زمنٍ يلهث فيه الناس وراء مظاهر الحياة الزائلة، نغفل كثيرًا عن السؤال الأعمق: كيف نعيش حياةً تُكرم موتنا؟
قد يبدو السؤال غريبًا، لكن الحقيقة أن إكرام الموت لا يتحقق بالبكاء على الراحلين، ولا بكلمات الرثاء التي تُقال بعد غيابهم، بل يتحقق حين نُعلّم أنفسنا أن نحيا حياةً تليق بالإنسان الذي سيقف يومًا بين يدي الله.
الحياة ليست بطولها، بل بعمق أثرها. فكم من إنسانٍ عاش زمنًا قصيرًا لكنه ترك بصمةً لا تُمحى، وكم من آخر امتدّ عمره عقودًا ولم يترك خلفه إلا الغبار. لذلك، فإن أول دروس إكرام الموت هو أن نحيا حياةً صادقةً، نزيهةً، نافعة للآخرين، نُحسن فيها الظن بالله، ونحمل همّ الإنسان قبل أن نحمل همّ الذات.
حين نعيش بشرفٍ ونقاء، ونُعامل الناس برحمة وعدل، نكون قد بدأنا نكرم موتنا من حيث لا نشعر. فالموت ليس نهاية الرحلة، بل هو محطة الحقيقة، حيث يُكشف الغطاء وتبقى الأعمال وحدها وفقط وحدها تتكلم هناك الأعمال، عندها يدرك الإنسان أن ما جمعه من مال أو جاه لا يُغني عنه شيئًا، وأن ما قدّمه من خير هو ما يصنع الكرامة.
إن إكرام الموت لا يكون بمظاهر الدفن ولا بما يُقال في لحظات الوداع، وإنما بما يتركه المرء من أثرٍ طيبٍ في القلوب، وبما يُخلّفه من علمٍ نافعٍ
أو صدقةٍ جاريةٍ أو ابنٍ صالحٍ يدعو له. تلك هي الجوائز الحقيقية التي بدأت بها في الدنيا إكرامًا لنفسك ولتستمر حيث الآخرة حيث الحياة الحقيقية السرمدية، إنها الكرامة التي لا تُشترى ولا تُمنح، بل تُكتسب بالعمل الصالح والإخلاص في العطاء.
فلنعلّم حياتنا إذًا أن تكون حياة ذات رسالة، أن نحيا للمعنى لا للمظهر، وللخير لا للمصلحة.
لنزرع في طريقنا وردة أمل، ولنترك في كل لقاءٍ أثر ابتسامة، ولنصنع من كل موقف فرصةً للتقرب إلى الله. فكل فعلٍ صغيرٍ من خيرٍ اليوم، قد يكون شفيعًا لنا غدًا بين يدي الله، حين تنقطع الأسباب ويبدأ الحساب ويكرمنا ربنا على رؤوس الخلائق ممسكين الكتاب باليمين رافعين الصوت مهللين فرحين: «هاؤم اقرأوا كتابي» فأي إكرام أعظم من هكذا إكرام وأي سعادة أعظم من تلكم السعادة.
في النهاية، نحن لا نخاف الموت لأننا نجهله، بل لأننا لم نُحسن الاستعداد له. فإذا صالحتَ نفسك مع الله، وأصلحتَ ما بينك وبين الناس، وعشتَ نقيّ السريرة طيب الأثر، فلن يكون الموت حزنًا ولا ذلًا ولا خوفًا، بل عبورًا كريمًا إلى حياةٍ أكرم، كما قال سلفنا الصالح عند الموت والأهل يبكون حوله: غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه.
علّم حياتك إذًا كيف تكرم موتك... بأن تحيا كما يحب الله أن تحيا.
فالموت لا يُكرم إلا من عاش مكرمًا.
فمن عاش كريمًا مات كريمًا ويبعث يوم القيامة كريمًا.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]