في نهاية الأسبوع المنصرم، يومي الخميس والجمعة، اجتمع أكثر من ألفٍ وخمسمئة شخص في مركز المؤتمرات في حيفا ضمن الاجتماع القطري لحراك "نقف معًا". كان المشهد استثنائيًا بكل معنى الكلمة؛ ليس لأنه أكبر اجتماع لنا فحسب، بل لأنه جاء في لحظة يخيّل فيها للمرء أن احتمالات اللقاء نفسها قد انهارت تحت ثقل الحرب والخوف والتحريض.

منذ أكثر من عامين يعيش الناس في هذه البلاد على خط صدع متواصل. الحرب على غزة، والسابع من أكتوبر، والانهيار العميق في العلاقات بين العرب واليهود، جميعها تركت أثرًا ثقيلًا في النفوس والشارع والمشاعر. انقسم المجتمع إلى جزر متباعدة، وفقد كثيرون القدرة على تخيّل لقاء حقيقي لا تهيمن عليه الريبة أو التوجس.

لذلك، فإن اجتماع هذا العدد الهائل من الناس، من العرب واليهود، في قاعة واحدة لم يكن أمرًا بديهيًا. كان فعل مقاومة بحد ذاته. مقاومة لمشهدية الكراهية التي أريد لها أن تكون قدرًا، ولمعادلة الخوف التي حاولت السلطة فرضها كبديل عن الواقع.

أنا، كغدير، لست غريبة عن الميدان. على مدى سنوات طويلة كنت جزءً من المبادرات الشعبية، وعضوًا فعّالًا في حراك "نقف معًا". شاركت في اجتماعات قطرية كثيرة، وانتُخبت سابقًا ضمن طاقم التنسيق. ومع ذلك، لم أشهد اجتماعًا بهذا الثقل المعنوي، ولا بهذه الرمزية.
كانت القاعة مكتظة بأناس تجمّعوا رغم الجراح المفتوحة. بعضهم جاء لأنّه يبحث عن حلّ سياسي عادل، وبعضهم يرى في الحراك بديلًا سياسيًا حقيقيًا في ظلّ تراجع القوى التقليدية. آخرون وصلوا بدافع القلق على مجتمعهم في ظلّ تمدد الجريمة والعنف، وهناك من جاء لأنه يؤمن بأن التغيير يبدأ من الناس حين يقررون ألا يستسلموا للواقع المفروض عليهم.
لكن الجامع الأكبر بينهم كان الإيمان بأن الحراك يشكل طريقًا نحو مستقبل أكثر إنسانية، وأن البلاد يمكن أن تكون، رغم كل شيء، وطنًا مشتركًا يُصنع لا ويُفرض.


كلمة جمانة خلايلة… ووجع يتجاوز الأفراد

من اللحظات الأكثر تأثيرًا بالنسبة لي كانت كلمة صديقتي جمانة خلايلة حاج علي من عكا، التي وقفت أمام الجميع لتحكي عن فقدان شقيقها جميل الطيب، ضحية العنف الذي ينهش مجتمعنا منذ سنوات. أنا من عكا أيضًا، وأعرف معنى الفقد. أعرف كيف يغدو الألم جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية.

كان خطاب جمانة أكثر من شهادة؛ كان مرآة لمأساة جماعية يعيشها المجتمع العربي، ومذكّرة بأن مواجهة الجريمة ليست قضية شخصية، بل قضية كرامة ووجود.

تميز الاجتماع أيضًا بشجاعة الحاضرين. فقد تزامن مع مرحلة تُكمّم فيها الأفواه بشكل غير مسبوق، وتتحول فيها الكلمات إلى ملفات تحقيق. وصل الأمر حدّ تدخل الشرطة لمحاولة منع رفع شعارات تنتقد الحرب على غزة.
لكن في تلك القاعة، استعاد الناس صوتهم. وقفوا ليقولوا إن الإنسانية ليست تهمة، وإن رفض الحرب ليس خيانة، وإن العرب واليهود قادرون على العمل السياسي المشترك مهما اشتدت العواصف من حولهم.

اختُتم الاجتماع بانتخاب طاقم التنسيق الجديد في الحراك، وهو طاقم يضم رفاقًا ورفيقات من العرب واليهود يمثلون نسيجًا سياسيًا وأخلاقيًا يشبه ما نطمح إليه: شراكة متساوية، ورؤية مشتركة، وانحياز واضح لحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
كانت لحظة الانتخاب إعلانًا رمزيًا بأننا لا ننظّم فقط احتجاجًا أو مؤتمرًا، بل نبني نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه البلاد حين لا تستسلم للواقع بل تعيد تشكيله.

خلال الاجتماع، وأكثر من أي مرة سابقة، تردد في ذهني عدة مرات، عبارتنا التي لطالما قلناها وكررناها "حيثما وجد النضال… وُجد الأمل" شعرت أنها تمثل اللحظة، بكل ما فيها من تفاصيل وبكل معانيها. في كل نقاش، في كل مصافحة بين عربي ويهودي، في كل لحظة تحدٍّ للخوف. الأمل لم يعد فكرة معلّقة في الهواء، بل ممارسة يومية، وقرارًا جماعيًا بمواصلة الطريق رغم الخسائر والندوب.
الاجتماع في حيفا لم يكن مجرد اجتماع تنظيمي. كان مساحة تُعيد للناس قدرتهم على التخيّل، وعلى الإيمان بأن المستقبل لا يُكتب بقرارات مفروضة عليهم، بل بخيارات يُصرّون عليها.
لقد خرجت من الاجتماع أكثر إيمانًا بأن العمل المشترك ليس حلمًا، بل ضرورة، وأن هذه البلاد — بكل تناقضاتها وجراحها — لا تزال قادرة على احتضان مشروع سياسي جديد، إنساني، عادل، ومشترك.
وهذا، بالنسبة لي، هو معنى أن نقف معًا.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]