بقلم: رانية مرجيّة

يقدّم كتاب «أسلاك كهرباء مكشوفة للريح والمطر» لياسمين كنعان تجربة نثرية مشحونة بحرارة الداخل، وقلق الروح، وتوتر العاطفة التي تقف دائمًا على حافة الانفجار. ليست هذه النصوص مجرّد بوح عابر؛ إنها كتابة تتعامل مع اللغة كجهاز تنفّس، ومع الوجع كمادة أولى لصناعة الفن، ومع الذاكرة كحاضر دائم لا يكفّ عن إعادة صياغة الذات.

تكتب كنعان بوعي يقترب من الاعتراف الوجودي، وبجرأة تكسر المسافة بين القارئ وداخلها. فاللغة عندها لا تحاول أن تكون جميلة، بل صادقة ومكشوفة، تأخذ شكل انكسارها، وترتجف حين ترتجف مشاعرها. تقول في إحدى نصوصها: «قد تبدو مشاعرنا مثل أسلاك كهرباء مكشوفة للريح والمطر.» هنا تتحوّل العاطفة إلى طاقة خطرة، قابلة للاشتعال، وإلى صورة شعرية تعكس جوهر الكتاب: هشاشة داخلية في عالم لا يرحم.

الغياب… ليس غيابًا بل فلسفة حياة
الغياب داخل هذه المجموعة ليس حدثًا أو صدمة؛ إنه هواء تتنفسه النصوص، وسياق تُبنى عليه جمل الكتاب. فالكاتبة لا تتعامل مع الغياب كفقد، بل كمساحة وجودية لفهم الذات. تقول: «سأختار الغياب.» وكأنها تجعل منه خيارًا واعيًا، موقفًا وجوديًا يعيد ترتيب العلاقة بين الذات والعالم، بين الحب وحدوده، بين الحضور وثقله. الغياب هنا ليس موتًا، بل ظلًّا مرافقًا، وطريقة للنظر إلى ما يحدث في الداخل من مسافة آمنة وشفافة.

الجسد… ساحة معركة لا تهدأ
لا تحضر الجسدانية في نصوص ياسمين بوصفها احتفاءً أو وصفًا، بل كصراع بين ما تريده الروح وما يمنعه التعب. تكتب: «أجرّب جسدي على حافة الاشتهاء… جسدي المغشي عليه.» الجسد هنا ليس أداة لذّة؛ هو كيان مثقل، منهك، يتصدّع بين الرغبة والخيبة. هذا الحضور الجسدي يحمل بُعدًا نفسيًا عميقًا، يجعل الجسد صورة لتصدّع الداخل، لا لسطحه فقط.

فلسطين… وطن يتكلّم من قلب النص لا من شعاراته
تحضر فلسطين في هذا الكتاب بلا ضجيج ولا خطابية. تحضر كجرح، كهمّ داخلي، وكوجود يلازم صاحبه أينما ذهب. تقول: «أبكي حين تبكي نابلس، وأنزف حين تنزف جنين.» هنا يصبح الوطن جسدًا موازيًا، يوجع ويُوجَع، ينهض في النص كنَفَسٍ داخلي لا كقضيّة تُرفع لافتات لها. هذا الحضور الهادئ، الصادق، يجعل الوجدان الفلسطيني امتدادًا طبيعيًا للذات، لا خطابًا موجّهًا للآخر.

الكتابة… آخر خيط نجاة
تكشف نصوص كنعان عن علاقة حميمة بين الكتابة والنجاة، بين الكلمة والبقاء. تقول: «كنت أدق كلماتي مثل أوتاد في الجدران… كي أبقى معلّقة هناك.» هنا تتحوّل الكتابة إلى طريقة للمقاومة النفسية، إلى وسيلة تمنع السقوط الكامل، وإلى خيط رفيع يشدّ الكاتبة نحو الحياة في لحظات الانطفاء. وفي نص آخر تقول: «أحاول ستر عري روحي بالكلمات.» وهذا اعتراف نادر بأن الكتابة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية.

الصورة الشعرية… جمالية تتخطّى الحدود
صور ياسمين لافتة، مكثفة، عميقة، تمتلك القدرة على العبور إلى قارئ عالمي دون أن تفقد جذورها. مثل قولها: «أدوزن أوتاري كي تنتظم التنهيدات.» أو «الروح مرتوية والجسد مرتعش.» هذه الصور تحمل ما يكفي من الطاقة لتعيش خارج اللغة العربية أيضًا، لأنها نابعة من عمق التجربة الإنسانية. وهذا ما يمنح الكتاب طابعًا عالميًا، قابلًا للانتشار خارج الجغرافيا والثقافة التي خرج منها.

خاتمة
«أسلاك كهرباء مكشوفة للريح والمطر» هو كتابٌ ينتمي إلى الكتابة التي تواجه ذاتها ولا تخشاها، كتابة تتقدّم من داخل الألم لا من حوله. إنه نصّ يوسّع حدود البوح النسوي الفلسطيني، ويخلق مساحة لغوية جديدة قوامها الصدق والعمق والوعي. ما يميّز هذا الكتاب أنه لا يستعير لغة أحد، بل يخلق لغته الخاصة، ويقدّم تجربة نثرية قادرة على لمس القارئ العربي والعالمي في آن واحد.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]