بقلم: رانية مرجية

في زمنٍ تتلاشى فيه الأصوات خلف ضجيج التحوّلات، ويغدو الصمت لغة أخرى للبوح، يأتي كتاب “ضجيج الصمت” لهديل قشوع شريقي ليعيد ترتيب العلاقة بين الداخل والخارج، بين التجربة الفردية والهمّ الجمعي، وبين اللغة كمهرب واللغة كقدر.
يقدَّم الكتاب من خلال رؤية الشاعرة شوقية عروق منصور التي تُطلّ من مقدمته كمن يُزاح الستار عن نصّ جديد ينتمي إلى الأدب الإنساني الحميمي، مقدّمةً قراءةً تُحيط بالكتاب كأمّ تُحيط بوليدها، فتمنحه شرعية الدخول إلى المشهد الأدبي.
لقد نجحت شوقية في تقديم الكاتبة بوصفها صوتًا يكتب من صميم التجربة، ويروي من مسامات القلب، فتأتي مقدمتها بمثابة عتبة نصية تُمهّد للغوص في دفاتر الكتاب، وتفتح باب التأويل على مصراعيه.

بين التجربة الشخصية وذاكرة الوجع الجمعي

يتحوّل النصّ لدى هديل إلى مسارٍ يجمع بين السيرة الذاتية، ووميض القصيدة النثرية، وفصول من اليوميات التي تواجه جائحة كورونا وما حملته من مأساة عالمية.
في فصل “مذكّرات معلّمة في زمن الكورونا” تقف الكاتبة عند مشهد الأم المعلّمة، التي تتوزع بين متطلبات أبنائها، وضغوط التعليم عن بعد، وارتباك المؤسسات التعليمية في مواجهة تحولٍ قسريّ فرضته الجائحة.
هنا لا تروي الكاتبة يوميات سطحية، بل تُمسك بتفاصيل قلقة للمرأة العاملة التي تعيش ازدواجية الدور:
أمّ تُناديها الأصوات الصغيرة من حولها، ومعلّمة تُكابد الفوضى الإلكترونية، فتكتب بصدقٍ التجربة التي عاشتها آلاف النساء خلال تلك الفترة، ولكن بأسلوب يزاوج بين الحسّ الإنساني وصفاء اللغة.

الأسلوب: بين الحُنوّ والصلابة

لغة هديل ليست لغةً وصفية باردة، بل مزيج من حنُوّ أمٍّ لا يُخطئه القارئ، وصلابة امرأة اختبرت الألم ولم تستسلم له.
الصور الشعرية لديها ممتدة، رقيقة حينًا، وقاطعة حينًا آخر؛ ففي نصوص مثل “إلى ابنتي مريم” أو “مشيتُ” أو “تحرّر قلمي” يظهر اتّساع العالم الداخلي للكاتبة، ذلك العالم الذي ينهض على محورين أساسيين:

1. الكتابة كفعل تحرّر

تتكرر مفردات الانعتاق والانطلاق والتحرّر في نصوصها، وكأن الكتابة لديها ساحة خلاص، تُعيد ترتيب الحياة، وتمنحها معنى وسط فوضى الواقع.
في نص “تحرّر قلمي” يتجسّد القلم ككائنٍ يستعيد حياته بعد خمول، لتصبح الكتابة وعدًا بتجدّد الروح.

2. الأمومة كجذع الوجود

الأمومة لدى هديل ليست حاضرة فقط بوصفها علاقة بيولوجية، بل بوصفها بنية روحية تشكل منظورها للعالم.
فنص “إلى ابنتي مريم” ليس مجرد رسالة حب، بل إعلان عن ميلاد جديد، ميلاد الكاتبة من خلال ابنتها، وكأن كل فصل من فصول الكتاب يضع الأمومة كجذر يمدّ التجربة بالدفء والثراء العاطفي.

القصيدة النثرية كنافذة على الهوية

كثيرٌ من النصوص تميل بوضوح إلى القصيدة النثرية، بإيقاعٍ هادئ، وصور متجاورة، ونبرة تأملية.
في نصوص مثل “أخوة”, “وماذا عن الانفراد”, “صمت” تظهر قدرة الكاتبة على صياغة لحظات إنسانية مشحونة بالشعور، معتمدة على:
• التكثيف
• التكرار البنائي
• تحريك الصورة عبر تفاصيل بسيطة
• استعمال ثنائية الضوء/الظلام والحضور/الغياب

وهي عناصر تمنح النصوص طابعًا يُقرأ على حدود الشعر والسرد.

بين الذاكرة والهوية: فلسطين الغائبة الحاضرة

مع أن الكتاب لا يتخذ من الوطن موضوعًا مباشرًا، إلا أن الوجدان الفلسطيني يحضر بين الأسطر كظلّ طويل.
هذا الحضور غير المُعلن ينعكس في الصور، وفي العلاقة بالبيت، وفي توق العائلة إلى الطمأنينة.
لقد اختارت الكاتبة ألّا تُغرق النصوص في الخطاب السياسي، بل تركت للوطن أن يتسرّب في اللغة، في الخوف الذي يسكن القلوب، وفي التمسّك بالشجرة والأرض والبيت، فيصبح البيت رمزًا، والابنة رمزًا، والحياة كلّها فعل مقاومة ناعمة.

معنى “ضجيج الصمت”

العنوان ليس مجرد مفارقة لفظية، بل بيان فلسفي صغير:
الصمت قد يضجّ، حين تزدحم داخله الأسئلة التي لا تجد إجابة.
وهديل تُتقن تحويل الصمت إلى مساحةٍ للبوح، والبوح إلى صراعٍ داخلي تتسلل منه الحكمة، فنفهم لماذا تبدو نصوصها كقطع ضوء تتوهج وسط عتمة زمنٍ قاسٍ.

مكانة الكتاب ضمن الأدب النسوي العربي

ينتمي هذا الكتاب إلى تيار الكتابة النسوية التي لا ترفع شعارات مباشرة، بل تكشف التجربة من داخلها، عبر:
• ثقل الدور الاجتماعي
• ضغط الأمومة
• علاقة المرأة بجسدها وذاتها
• صراعها بين الواجب والرغبة
• وقوفها في مواجهة العالم بصمتٍ يصل حدّ الصراخ

لقد قدّمت هديل نموذجًا للكتابة النسوية الهادئة، غير العدائية، لكنها صالبة من الداخل، تنضح بالروح، وتشكل جزءًا من التراكم الأدبي الفلسطيني الذي يكتب الحياة بأدواته الخاصة.

خاتمة

إن “ضجيج الصمت” ليس كتابًا للتسلية، ولا دفتر خواطر عابر، بل مشروع أدبي يُراقب الحياة من زاويتها الأكثر هشاشة، ويضيء على تلك اللحظات التي تَصنع الإنسان ولا ينتبه إليها.
هديل قشوع شريقي تُثبت في هذا العمل أن الصوت الهادئ يمكن أن يكون أكثر صدى من الصراخ، وأن الصمت، حين يُكتب بصدق، يُصبح لغة كاملة.

ومن خلف النصّ، تظلّ مقدمة الشاعرة شوقية عروق منصور شاهدًا على أن هذا الكتاب وُلد من رحم الأدب الحقيقي، ومن إيمان امرأة بامرأة، وإيمان كلمة بكلمة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]