في مكان ما من هذا العالم، لا يهم أين بالتحديد، فوق قطعة أرض تتشابه مع آلاف المدن التي تتنفس تحت ثقل العنف والسكوت، كان هناك مصنع محمي.
ليس مصنعًا للثياب فقط، بل مصنعًا لترميم البشر.
مكان يشبه مساحة محايدة بين الماضي والمستقبل، بين الألم ورغبة الإنسان في أن يظل قائمًا رغم كل شيء.
في الزاوية الهادئة من ذلك المصنع، جلست فتاة في بدايات العشرين.
لم تكن ملامحها تخبر أحدًا بحكايتها، لكنها كانت تحمل في عينيها أثر انكسار قديم.
ذلك النوع من الانكسار الذي لا يحدث من ضربة غريب، بل من خيانة قربٍ ظننّاه ملاذًا.
لقد جاءت إلى المصنع هاربة من صدمة لم يخترها جسدها، ومن سؤال ظل يلاحقها طويلًا:
كيف يمكن للإنسان أن يشفى من شخص كان يجب أن يحميه؟
كانت تمسك كل صباح بالخيط الأبيض.
خيط واحد، نقيّ، لا يحمل ذاكرة أحد.
كانت تمرره بين أصابعها كما لو أنها تتأكد أن يدها ما زالت ملكًا لها.
ومع كل غرزة تخيطها، كانت تحاول أن تلّم شظايا الروح التي مزّقت عنوة.
حولها كانت النساء يشبهن نساء العالم كله:
وجوه صامتة تحمل خلفها حكايات لم تُحكَ،
وأيادٍ تعرف كيف تُعيد ترتيب الحياة دون ضجيج.
لم يسألنها شيئًا، لأن بعض الأسئلة قاسية أكثر من الجروح.
اكتفين بأن يكنّ بجانبها،
صامتات…
كما لو أن الصمت نفسه فعل حبّ.
في مساء بعيد، وحين كان المصنع يفرغ من صوته تدريجيًا، اقتربت منها المشرفة وسألتها برفق:
«هل ترغبين أن تعودي إلى العمل في الخارج يومًا؟»
هزّت الفتاة رأسها دون يقين.
لم تكن تخشى العالم،
بل تخشى أن يكرر العالم عليها نفس الخذلان.
لكن في تلك الليلة، حين كانت تغلق حقيبتها، لاحظت شيئًا بسيطًا لكنه عظيم:
يدها لم ترتجف.
للمرة الأولى منذ زمن طويل، لم ترتجف.
عندها فهمت أن الشفاء ليس ضوءًا يظهر فجأة،
بل لحظة صغيرة جدًا،
خفيفة جدًا،
تقول فيها الروح لنفسها:
“أنا هنا.
وما زلت أستحق الحياة.”
الفلاسفة يقولون:
إن كل إنسان يولد مرتين.
مرة من جسد أمه،
ومرة من الجرح الذي كاد أن يكسره.
وهذه الفتاة كانت تعيش ولادتها الثانية.
لم تبحث عن البطولة في مواجهة المعتدي،
ولا عن ضجيج العدالة.
كانت تبحث عن شيء أعمق:
أن تستعيد نفسها،
أن تتصالح مع جسدها،
أن تعود لصوتها الداخلي دون خوف.
ولم يكن المصنع مجرد مكان عمل…
كان رحمًا جديدًا،
يمنحها الوقت كي تتعلم كيف تحب وجودها من جديد.
لم تعد حكايتها محصورة في حدود مدينة أو ثقافة.
فهي تشبه حكايات فتيات حول العالم،
من الشرق والغرب،
من الشمال والجنوب،
فتيات يملكن الجرح نفسه،
والصمت نفسه،
والحاجة العميقة إلى مكان آمن يقول لهن:
“أنتن لستن وحدكن.”
وقد كانت قصتها درسًا عالميًا:
أن الإنسان لا ينجو بالهروب،
ولا بالصراخ،
بل بالاعتراف بأن الخوف ليس عيبًا،
وأن الشجاعة التي لا تُرى
هي الشجاعة الحقيقية.
ويوم ستخرج من المصنع،
لن يكون خروجًا من جدران أربعة،
بل خروجًا من القيد الذي وضعه الألم حول قلبها.
ستخرج امرأة جديدة،
تعرف أن كرامتها ليست قابلة للكسر،
وأن يدها التي أمسكت بالخيط ذات يوم
كانت تمسك في الحقيقة بخلاصها.
ستخرج لا لأنها لم تعد خائفة،
بل لأنها تعلمت أن تمشي
حتى لو كان الخوف يمشي بجانبها.
وهذه، في النهاية،
أعظم انتصارات البشر.
[email protected]
أضف تعليق