هادي زاهر
"خضع "ساطع البِرّ" لأوامر خدمته العسكريّة الاجباريّة وكان قد انضمّ للحزب الحاكم وراح يتملّق لشخصيّة نافذة في الحزب الّتي أوصت بترقيته ليصبح ضابطًا، لكن قائد المعسكر قال أنّ قوّته العقليّة محدودة، وكان الجواب وليكن ضابطًا ولو على عينك يا تاجر، وبعد الخدمة الإلزاميّة أراد الاستمرار في خدمته ولكنه رُفض بشكل دبلوماسيّ فخرج إلى الحياة واعتقد بأنّه مع رتبته العسكريّة سوف تفتح امامه أبواب الحياة على مصرعيها، خيّل له طموحه أنّه سوف يخطف الأضواء، ولكن "العتمة لم تكن على قد ايد الحرامي" وراح يبحث عن عمل، أخذ يسجل سيرته الذّاتيّة الّتي توحي بأنّه ذو مقدرة كبيرة تؤهله للامساك بأفضل عمل، ولكنّه سرعان ما يتمّ إبلاغه بعد فترة عمل قصيرة بالاستغناء عنه، وتكرّرت هذه الحالة حتّى ضاقت به السّبل.
طال الانتظار دون أن يفقد الأمل إلى أن قادة واقعه التّعيس إلى الخدمة في بيوت الأغنياء من الخواجات في مدينة القريبة من مكان سكناه، وبرّر ذلك بالقول: "اه العمل مش عيب" وإلى جانب ذلك انخرط في العمل الاجتماعيّ بين اهله وكان له في كلّ عرس قرص، لم تنجُ مناسبة دون أن يكون قد شارك بها وراح يصول ويجول متباهيًا بقدراته الوهميّة وقرّر أن يكون شاعرًا وراح يكتب القصائد ويرسلها إلى المجلّات والصّحف ولكن سرعان ما جاء الجواب الّذي يعلمه بأنّ قصائده لم ترقَ لمستوى النشر، شعر بمرارة فشله وراح يندب حظّه ويفكّر طويلًا وقاده ذلك إلى مصادقة أحد الأدباء وكان يملك مطبعة، أخذ ساطع يقوم بزيارته يوميًا ويساعده باجتهاد شديد في تسيير عمله حتّى توثقت علاقته مع الكاتب صاحب المطبعة إلى أن جاء ساطع بقصيدة يعرضها على صديقة الّذي لم يخفِ اشمئزازه وقال له ما هذا انها تفتقد إلى كلّ ما يلزمه الشّعر من مقوّمات، ثم رفع صوته سائلًا: "أين الصّور؟ ثمّ أنّ هناك أخطاء نحويّة وأخطاء املائيّة".
امتقع وجه ساطع الّذي كان يعتقد بأنّ ما كتبه ابداع راق، نظر الكاتب صاحب المطبعة إلى وجه ساطع الّذي غزاه اللّون الأحمر، وقال له مشفقًا، لا تيأس فكلّ محاولة في البداية تكون ضعيفة، أجاب ساطع بأنّ عنده 17 ديوانًا، قال صاحب المطبعة اتي لي بهم وسوف نُجلس ما هو قريبًا من الشّعر، ما لا بأس به كي نُصدره.
وأخذ صاحب المطبعة يُجلّس بعض الفقرات ويصيغاها من جديد لتقترب من مستوى معيّن ولكن عندما طبع الكتاب ووزّع لم يلق أيّ أثر ممّا أحزن ساطع إذ كان يتوقّع أن يشار إليه بالبنان، ومرّت الأيّام واقترب موعد الانتخابات المحلّيّة وكان يطمح في الوصول إلى كرسي رئاسة المجلس المحلّيّ واعتقد بأنّ السّكّان سوف يتهافتون عليه، وراح يسوق نفسه على أنّه ضابطًا في الجيش إلى جانب كونه شاعرًا ولكن فوجئ بمن يسخر منه بشدّة وتم إقناعه بأنّ هذه الثّياب كبيرة عليه، وكم كان صعبًا عليه عندما أوقفه أحد المواطنين متسائلا:
انت سترشح نفسك للقيادة (وقهقه بصوت عال): هههههههه
دقت قهقهة المواطن في جمجمته وشعر بان الأرض زالت رواسيها ,
واقنع نفسه بأنّ المجتمع ظالم لم يقدّره ولم يعرف مواهبه ولم يقيّم اشتراكه في الافراح والاتراح ومواكبته لجميع الأحداث في قريته، لا سيما دوره في فكّ بعض الخلافات بين بعض الأشخاص برفقة عدد من أصدقائه.. أخذ يجوب غرفته ذهابًا وايابًا واستمرّ في محاورة نفسه وبعد كلّ هذا الفشل أدرك بأنّه قد يصاب بمس من جنون:":
"ماذا عليَّ أفعل يا ربّ؟! "
وسرعان ما اهتدى إلى جمعيّة تمنح شهادة الدّكتوراة الفخرية مقابل مبلغ من المال.
اتّصل بها وبعد حديث طويل ومفاوضات وافقت على منحه الدّكتوراة، وعندها أخذ ينشر بعض الكتابات الرّكيكة يكتب إلى جانب اسمه، الدّكتور الكاتب الشّاعر، ومع ذلك لم يرَ الاحترام في عيون الناس
ولجأ إلى الفراش عدّة أيّام، كان يتوه مع أفكاره وخيالاته بعيدًا حتى أنّه عاد ليصَبَّ جَامَ غَضَبِهِ على مجتمعه، شعر بأنّ الغضب يغلي في اعماقه، قال لنفسه بحدّة وغيط:
إذا كنت أعيش في الوهم فمن الأفضل أن انتحر.. لا.. لا.. لن انتحر. وفجأة اتّسعت ابتسامة بين شفتيه.. إنّه الحلّ الوحيد الّذي يكفل لي حلّ مشكلتي وعلى رأسها أزمتي النّفسيّة، عليَّ أن أعترف.. انفرجت اساريره واتّسعت الابتسامة على وجهه.. انّ الحزن الشّديد كالوباء.. إني اشعر باتّساع ملابسي وعليّ ان استدرك قبل فوات الأوان.. اعتقد أنّي إذا تديّنت فسوف تتغيّر نظرة النّاس إليّ، فالنّاس تحترم المشايخ وتقدّرهم، سوف يفسحون لي المجال لأن أسير في المقدّمة، وسرعان ما اعتمر العمامة واطلق العنان لشنبه ولبس اللّباس العربيّ الخاصّ بالمتديّنين، نظر بالمرآة إلى نفسه معجبًا وقال: أه ولله فكرة.. خطوة رائعة سوف أكتب الآن مقالًا ارفق صورتي معه ليدرك أهل البلد بأنّي تديّنت.
أنهي كتابة ما يرد في خاطره وذهب إلى صاحب المطبعة لينقحه له، كتب بقلم فضيلة الشّيخ الدّكتور الشّاعر الكاتب ساطع البِرّ، نظر إلى اسمه فرحًا بالألقاب التي منحها لنفسه وعاد يقول لنفسه، لا لن أكتب فضيلة الشّيخ سوف أظهر أكثر تواضعًا إذا استبدلت ذلك بالحقير لله الشّيخ الدكتور الكاتب الشّاعر ساطع الِبرّ
[email protected]
أضف تعليق