في كل بلد، مهما بدا آمنًا أو جميلًا،
هناك بيوت تهتزّ ليلًا.
بيوت تتظاهر بالنوم،
لكنها تسمع ما لا يُقال،
وتخفي ما لا يجب أن يُخفى،
وتكتم أنينًا يعرف طريقه إلى القلوب الصغيرة.

بيت ليان كان واحدًا من تلك البيوت…
بيتًا لا يصرخ،
لكنه ينزف من الداخل دون أن تراه أحد.

1. الطفلة التي كانت تقيس المسافة بين الأذى والباب

كانت ليان، في الثامنة فقط، تعرف أنّ الخوف ليس ظلًا… بل رائحة.
ليس كلمة… بل خطوة.
ليس صراخًا… بل اقتراب رجل من مكان لا يجب أن يقترب منه.

كانت تعرف البيت غرفه واحدة واحدة:
الغرفة الآمنة،
الغرفة التي لا تدخلها،
الممر الذي تتوقف فيه أنفاسها،
والباب الذي يجعل قلبها يهرب قبل جسدها.

لم يكن أحد يسألها:
“ليش متوترة؟”
“ليش تنامي بدري؟”
“ليش صوتك منخفض؟”

لأن الكبار نادرًا ما يسألون الأسئلة الصحيحة…
حين تأتي الحقيقة من طفل.

2. الأم التي سمعت الحقيقة قبل أن تُقال… وخافت منها

الأم لم تكن جاهلة.
لكنها كانت أسيرة ما هو أشد قسوة من الجهل:
الخوف من أن يأتي الخراب من داخل البيت.

كانت ترى كل ما لا يُقال:
جسد صغير ينكمش،
عينان تبحثان عن مخرج،
طفلة تضحك بوجهٍ نصفه دمعة.

لكنّ المجتمع يربّي الأمهات على جملة واحدة:
“إسكتي… وانسي… ومرّقي.”

حتى وقع بين يديها ما لم تستطع أن تمرّره:
ورقة صغيرة،
سطر واحد،
بقعة حبر تهزّ جدارًا كاملًا:

“لو مش أنا الغلط… ليه خايفة منه؟”

كان السؤال أبعد من قدرة الأم على الاحتمال،
وأقرب من أن يُتجاهل.

3. الليلة التي استيقظ فيها البيت

جلست الأم قرب ابنتها.
لم تبحث عن التفاصيل،
لأن التفاصيل تقتل.
لم تطلب الأسماء،
لأن الأسماء ثقيلة على طفلة.

اقتربت فقط…
بذلك الاقتراب الذي تفعله الأمهات حين يقفن بين الطفل والموت.

قالت:

“ما رح أتركك.
وما رح نخلي الخوف يحكم بيتنا.”

كانت الجملة قصيرة،
لكنها كسرت سلسلة كاملة من الصمت الموروث.

في تلك الليلة،
لم تنجُ ليان فقط…
بل نجت الأم أيضًا.

نجتا من صمتٍ كان يمكن أن يُدفن على شكل قدر.

4. حين تذهب امرأة بقلبها إلى العدالة

في الصباح،
لم تذهب الأم إلى شيخ،
ولا إلى رجل كبير،
ولا إلى مجلس رجال يحرس العار أكثر مما يحرس الطفولة.

ذهبت إلى القانون.
إلى العالم الحقيقي.
إلى الحقيقة.

قالت أمام الجميع:

“الخيانة الحقيقية…
إنو نخلي طفل يعيش مع خوف ما بيقدر يسميه.”

لم تكن شجاعة خارقة،
بل شجاعة أمّ.
والأمهات حين يقررن…
يغيرن مجرى حياة.

5. حين لا يعود الصوت خائفًا من نفسه

كبرت ليان.
كبرت دون أن تتظاهر أن الماضي لم يكن.
كبرت دون أن تخجل من جرح لم تصنعه.
كبرت وهي تعرف أن الصوت لا يُمنَح…
بل يُنتزع من داخل الظلام.

صارت تكتب.
لا لتخبر الناس بما حدث،
بل لتخبرهم بما لا يجب أن يحدث مرة أخرى.

صارت تقول:
“الطفل ما بيخترع خوف.
والخوف ما بيطلع من الفراغ.”
“والستر الحقيقي… حماية الطفل.
مش حماية المجرم.”

كانت كلماتها لا تُشبه كلمات ناجية…
بل كلمات مجتمعٍ يحاول أن يتعلم أخيرًا.

6. خاتمة تُلزم القارئ ولا تتركه محايدًا

هذه ليست قصة ليان.
هذه قصة العالم.
قصة الجدار الذي لم يعد قادرًا على حمل الأسرار.
قصة الجملة التي تغيّر كل شيء:
“أنا خايفة.”

قصة أم اختارت أن تصدق.
وقانون اختار أن يحاسب.
ومجتمع يُجبَر، لأول مرة، أن ينظر في المرآة.

قصة تقول:

إن الأطفال ليسوا مجرّد تفاصيل في حياة الكبار.

وإن الصمت ليس حكمة… بل جريمة مؤجلة.

وإن البيت إمّا أن يكون أمانًا… أو لا يكون بيتًا.

وحين سُئلت ليان بعد سنوات:
“كيف نجا قلبك؟”

أجابت بجملة واحدة،
جملة تكفي لتُسقط خمسين عامًا من الصمت:

“نجوتُ يوم صدّقتني أمي… لا يوم حوكم هو.”

وهكذا،
ينهض الصمت،
ويقول اسمه،
ويفتح بابًا لم يدخل منه الضوء يومًا…

حتى الآن.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]