يقوم الموقف الاسرائيلي المعلن على اعتبار محادثات القاهرة في 6 اكتوبر بأنها ليست مفاوضات، بل محادثات على الترتيبات الفنية والاجرائية لتطبيق المرحلة الاولى من خطة ترامب. يعني ذلك، ان الحرب على غزة لا تتوقف في هذه المرحلة الى حين التطبيق الكامل للمرحلة بعودة جميع الاسرى والمحتجزين الاسرائيليين، مع ابقاء الغموض يحكم الموقف الاسرائيلي لما يلي هذه المرحلة. كما يزداد القلق الاسرائيلي من احتمالية احداث ادارة ترامب لتعديلات في الخطة نتيجة الضغط العربي والتزاماته امام القادة العرب والمسلمين خلال لقائه بهم في نيويورك والذي سبق لقاءه مع نتنياهو في واشنطن.
المعطيات:
- تزداد المخاوف الاسرائيلية على ضوء التسريبات التي ترشح عن طبيعة الاتصالات بين ترامب ونتنياهو، والاتهامات التي يكيلها له ترامب بصدد سلبيته ونواياه، وحصريا بعد رد حماس على الخطة والذي رحّب به ترامب وبقوة، وتهديده لنتنياهو بأنه اذا رفض الخطة سيزداد عزلة. فيما هناك اجماع اسرائيلي بأن التطورات الراهنة هي بداية مرحلة جديدة مختلفة عن كل مسار الحرب على غزة، ومن المستبعد تماما ان يكون بمقدور الحكومة الاسرائيلية عدم الانصياع للموقف الامريكي، بل أن تبعيّتها لواشنطن تتعمق ومن منطلق ضعف لا قوة. حتى وإن كان نتنياهو يسعى الى تصوير هذه التبعية المتزايدة بأنها صورة انتصار له قد يفتتح بها معركته الانتخابية.
- مَرَدُّ هذا الغموض في جزء منه، نوايا لا زالت قائمة بعدم التسليم بوقف الحرب ولا بالانسحاب من قطاع غزة. في المقابل ارتباك بصدد موقف ادارة ترامب، وبصدد مدى الاثر العربي والاقليمي على الادارة الامريكية. اذ تجمع التقديرات الاعلامية والسياسية على أن اسرائيل بدأت تتلمس تراجع نوعي في وزنها الاقليمي وانعكاس ذلك على اعتبارات وأولويات الادارة الامريكية.
- حدود الخطة الامريكية لا تتوقف عند قطاع غزة، بل هي ناتجة عن رؤية امريكية للمنطقة وللعالم بما يخدم اولويات ادارة ترامب. في هذا السياق، تكثر التحليلات التي ترى أن التحول الاكبر ينعكس في ظهور الوزن العربي والاقليمي والدولي المتمرد على اسرائيل وعلى علاقتها مع الولايات المتحدة، بما يهدد وحدانية النفوذ الامريكي في المنطقة. وعند التفصيل هناك قراءات تجمع بين العامل العربي والاقليمي ككل، فيما ترى اخرى وجود محورين اقليميين واحد هو التركي القطري السوري الذي توليه ادارة ترامب اهتماما خاصا باعتباره حليفا مقرّبا، اذ ان تركيا عضو في الناتو فيما ترتبط قطر بالولايات المتحدة باتفاقية دفاع ترى ان اي اعتداء على قطر هو اعتداء على الدولة العظمى، فيما تشكل سوريا مع استكمال التحولات المعنية بها واشنطن اساسا لهندسة الصراعات الجيوسياسية والتجارية العالمية. المحور الاخر حسب القراءات الاسرائيلية هو مصر والسعودية والاردن والامارات والذي يجتمع حول الحل السياسي لقضية فلسطين واقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع.
- في كل الاحوال فإن الولايات المتحدة مرتبطة مصلحيا – ماليا وتجاريا وأمنياً – بالدول المذكورة، بما لا تستطيع اسرائيل توفيره لها بل ان السياسات الاسرائيلية تعوّق ذلك. وإذ تعتمد الولايات المتحدة بكل اداراتها مبدأ الحلول الامريكية القائمة على النفوذ والسطوة، فالتحولات اقليميا تضع في موضع الشك استراتيجياتها التقليدية. التحول الاكبر هو المقارنة بين التحولات من نصف قرن. وإن شكلت سنوات السبعين وحصريا الخطاب ما بعد حرب اكتوبر 1973 والتي اعتبرتها اسرائيل أكبر اخفاق وتهديد وجودي حقيقي لها، فقد انتقل الخطاب العربي بدوره الى الاعتراف بان لا بد من التعاطي مع اسرائيل كدولة في المنطقة مسنودة بأكبر قوة عالمية والمستعدة للحرب نيابة عن اسرائيل، وجرى تحول تاريخي نحو الحلول السلمية لا العسكرية.
تحولات في البيئة العربية:
حاليا، فإن مسائل قد بدت سابقا بأنها ثابتة لا رجعة فيها تعود الى مساحات الشك، وذلك نتيجة اعتبار اسرائيل وسياساتها تهديدا للأمن القومي العربي جماعيا وكل دولة ذات صلة وحصريا مصر والاردن. هذا التحول يعيد الى الجدل الرسمي مسألتي ثبات وجدوى اتفاقات كامب ديفيد مع مصر ووادي عربا مع الاردن والاتفاقات الإبراهيمية مع الامارات. فيما لا تستطيع الولايات المتحدة تجاوز إحجام العربية السعودية عن قبول اي تطبيع او اتفاقات خارج نصوص مبادرة السلام العربية السعودية المنشأ، ولا تستطيع تجاوز الدور المصري في أي حل يتعلق بقطاع غزة وبفلسطين والمنطقة عموما.
هذا الواقع وتعاظم دور اللاعب العربي والاقليمي، يجعل الادارة الامريكية أقل استعدادا لتقبّل خطاب نتنياهو، بما فيه استخدامه الوظيفي للضغوطات السياسية من حزبي الصهيونية الدينية. في حين ان ترامب يبدو قد حسم موقفه نحو انجاز الخطة وأي تراجع او عدم انصياع اسرائيلي سيجعله يبدو ضعيفا ليس امام اسرائيل فحسب، بل امام الدول العربية والاقليمية، وسيكون لهذا التراجع فيما لو حصل استحقاقات.
محطة القاهرة الحاسمة:
الوفد الاسرائيلي الى القاهرة محدود الصلاحيات المحصورة في المرحلة الاولى من الخطة ودون ربطها بالمرحلتين المتقدمتين، فيما لم يرافقه حاليا الوزير ديرمر المشرف على المفاوضات، ويبدو انه سينضم في لحظة حضور كل من ويتكوف وكوشنير. الا ان حضور المبعوثين الامريكيين لن يكون شكلياً، بل وضع خارطة طريق لتطبيق مجمل الخطة وانهاء الحرب وادارة غزة والانسحاب الاسرائيلي ومصير القطاع وسعيا الى حل سياسي شامل بات بدوره مطلبا دوليا ليس من السهولة على ترامب تجاهله.
وفقا للقراءات الاسرائيلية تتعمق تبعية نتنياهو وحكومته لإدارة ترامب، هذا بحد ذاته ليس بالأمر الجديد وينطبق على كل حكومات اسرائيل والادارات الامريكية. الميزة الحالية هي انه ما كان مفروغا منه سابقا باتت عليه علامات سؤال في قلب السياسة الامريكية ومحرّكاتها الداخلية بما في ذلك تيار MAGA الانكفائي في السياسة الامريكية والحزب الجمهوري حصريا، ومؤشرات لتراجع أثر اللوبي الصهيوني التقليدي على السياسات الخارجية الامريكية وأثر ذلك على اسرائيل ايضا مع التغيير الحاصل في الرهانات الامريكية في المنطقة ليس تنازلا عن دعم إسرائيل، لكن عدم القدرة على تجاهل رهانات اخرى. يزداد هذا التراجع حدة في اعتبار ان علاقات اليهود الامريكان مع اسرائيل قد وصلت الى اسوأ حالاتها فيما جام الغضب لدى هذا الجمهور المؤثر ينصبّ على نتنياهو وسوف يلقي بوزنه لتغييره في الانتخابات الاسرائيلية القادمة وتحت مسمى "إنقاذ اسرائيل". فيما الميزة الاخرى هي ان تبعية نتنياهو لإدارة ترامب باتت تهدد مصيره السياسي ومستقبل حكومته ليس بسبب ضغوطات داخلية بل امريكية خارجية، وهو منحى تمت الاشارة اليه في مركز تقدم للسياسات منذ انتخاب ترامب واحتمالية ان يهدد حكمه بقاء نتنياهو وحلفائه في الحكم.
في اجتماعات القاهرة التي تبدأ في 6 تشرين الاول، لا تملك اسرائيل حرية الخيارات، ويبدو ان مساحتها تقلصت للغاية. كما يبدو ان حكومة اسرائيل تسعى الى التعظيم من وزن حماس التفاوضي لخلق انطباع بأن اي فشل في المحادثات سيجعل ادارة ترامب "تفتح ابواب الجحيم" على غزة. فيما ما يرشح من توتر واتصالات مشحونة من ترامب تجاه نتنياهو، انما تشير الى ما نشر بعد اجتماع ترامب نتنياهو في واشنطن، بأن الرئيس الامريكي قد هدد نتنياهو بتركه يواجه العزلة الدولية بنفسه.
بخلاف التوترات الاسرائيلية الداخلية وكما يبدو بالتوازي داخل حركة حماس، فإن الاصوات الصادرة عن واشنطن تشير الى تقدم كبير، واللافت أكثر هو ثقة الاصوات الصادرة عن المستوى العربي الرسمي بإنهاء الحرب وادخال المساعدات بشكل حر وبإدارة غزة، وتدريب قوات الامن الفلسطينية وكذلك بدور للسلطة الفلسطينية. الصوت العربي يبدو أكثر ثقة بنفسه وبمنحى التطورات من الصوت الاسرائيلي الاكثر قلقا يرافقه تكتّم نتنياهو الذي يحاول ان يوحي بأنه لا شيء مفروغ منه بعد عودة الاسرى والمحتجزين، وربما انه يسعى الى تبكير موعد الانتخابات.
للخلاصة، فإن منسوب القلق الاسرائيلي الرسمي من خطة ترامب يتزايد مع تصعيد ترامب لموقفه الحازم. ويبدو ان نتنياهو يفقد السيطرة على تداعيات أثر الخطة، وقد يكون ملاذه هو اعلان انتخابات مبكّرة على الرغم من عدم وجود تهديد بإسقاط حكومته من اي طرف اسرائيلي داخلي لا في الائتلاف ولا المعارضة. فيما أن تعمّق التبعية الاسرائيلية للولايات المتحدة فيه ايضا تعبير عن عزلتها الدولية وتراجع نفوذها اقليميا وتراجع اعتبارها امريكيا رافعةً للنفوذ. فيما تتعمق ايضا تبعية نتنياهو السياسية الحزبية للإدارة الامريكية وقرارها، بما يهدد مصيره السياسي.
وإذ تبدو التفاعلات الاقليمية والامريكية اكثر ثقة بأن الخطة ستنجح وأن نهاية حرب الابادة ستكون قريبة ان لم يحدث انقلاب في الموقف الامريكي ذاته، وفي حال حصل مثل هذا الانقلاب فإن التوتر لن يكون في حدود الحرب على غزة بل المنطقة بمجملها. في عزلة اسرائيل الاقليمية والدولية، لا يستطيع نتنياهو وقف الخطة الامريكية ولذلك يسعى الى اعتبارها، بخلاف قراءة الراي العام الاسرائيلي، بأنها تجليا للانتصارات وصورة انتصار وحصريا بعد عودة الاسرى والمحتجزين. فيما من المتوقع ان يتسع بشكل ملحوظ نطاق المطالبة بلجنة تحقيق رسمية قد تهدد بدورها مستقبله، وبخلاف ملفاته الجنائية التي استفاد من اجراءاتها القضائية أكثر مما خسر.
(مركز تقدم للسياسات)
[email protected]
أضف تعليق