بقلم: رانية مرجية
أنا لا أكتب عن الدكتور بشارة مرجية كناقدة فحسب، ولا ككاتبة تتعقب أثر أديب كبير، بل أكتبه من القلب، من وجدان امرأة فلسطينية تفخر به فخرًا لا يُقاس، فخر التلميذة بأستاذها، والإنسانة بالمفكر، فخر الأمة بمن ظل وفيًّا لقلمه وقيمه ولغته وأطفاله رغم الرياح التي حاولت أن تقتلع معنى الانتماء من جذوره.
نعم، أنا فخورة جدًا به، حدّ الامتلاء. فخورة بأنه واحد منّا، بأنه لم يخن يوماً الحرف ولا الطفولة، فخورة بأنه رجل استثنائي اختار أن يحمل مشعل التنوير بصمت، أن يزرع القيم في صمت، أن يربّي أجيالاً في زمنٍ مات فيه الرُسل واختلط فيه المعلم بالتاجر.
المربي الذي لا يشبه غيره
في زمن أصبحت فيه التربية سلعة، والتعليم تجارة، والطفولة ورقة يُزايد بها الجميع، ظل الدكتور بشارة مرجية مربيًا من الطراز النادر. لم يدخل الصف يوماً ليُلقّن، بل ليُضيء. لم يُدرّس مادة، بل كان يبعث في طلابه الوعي، الإحساس، والقدرة على الحلم.
كان يعلمهم أن يتكلموا لا أن يكرروا، أن يسألوا لا أن يخافوا، أن يحبوا الكتاب كما يحب الفلسطيني تراب وطنه.
أربعون عامًا من التربية والتعليم، ولم يُغادر فيها روح الطفولة، ولم ينهك من حمل عبء المعرفة. وكأن بينه وبين النور اتفاقاً خفياً: أن يبقى حاملاً له، حتى وهو يودع المؤسسة الرسمية، يظل مع كل كلمة، وكل قصة، وكل تلميذ.
ليس مجرد كاتب… بل هو صاحب رسالة
إن الدكتور بشارة مرجية لا يُمكن وضعه في خانة “الكاتب” فحسب. لأنه لا يكتب من أجل الكتابة، بل من أجل أن يبني، أن يؤسس، أن يُقيم أعمدة في نفوس الصغار تكبر معهم، فيكبرون وهم أكثر وعيًا، أكثر محبة، أكثر إنسانية.
في عالم باتت قصص الأطفال تُحاك كيفما اتفق، جاءت أعمال الدكتور مرجية لتُعيد للقصة معناها، وكرامتها، وللكلمة دفئها. فقصصه ليست مجرد أدوات ترفيه، بل صروح تربية، ترنّ في عقول الأطفال، وتربّت على قلوبهم.
قصة “الضفدعة التي أرادت أن تكون فيلاً” مثلًا، تبدو في ظاهرها قصة طريفة، لكنها تحمل في عمقها درسًا قيميًا عن القناعة، عن الاعتراف بالذات، عن الابتعاد عن تقليد الآخر. قصة “جدي والسوق القديم” تعيد للأطفال بهجة الحنين إلى أزمنة كانت أكثر صدقًا، أكثر أمانًا.
كل قصة عنده مرآة يُقدّمها للطفل كي يرى نفسه فيها، لكنه لا يتركه وحيدًا أمامها؛ بل يمسك بيده ويقوده بلطف إلى أفق أوسع، حيث القيم والمعاني تتشكل بأناقة، دون وعظ فجّ ولا شعارات خاوية.
فخرٌ شخصي وعام
أنا، رانية مرجية، فخورة جدًا جدًا بأن الدكتور بشارة مرجية هو من أبناء هذا الشعب، من أبناء هذه الأرض التي لا تنضب. فخورة بأنه لم يتخلّ عن لغته ولا عن مجتمعه ولا عن قضاياه.
كم من مرة قرأت له وأنا أبكي من الامتنان، لا لأن الحكاية حزينة، بل لأننا ما زلنا نملك من أمثاله، من يكتب بأمانة وضمير وهدف.
كم من مرة اقتبست من كلماته لأشرح للجيل الجديد معنى الانتماء، معنى أن تكون فلسطينيًا وتختار أن تزرع بدلاً من أن تهدم، أن تحب بدلاً من أن تلعن، أن تكتب بدلاً من أن تصرخ.
أجل، نحن في حاجة ماسة اليوم إلى بشارات أخرى، إلى مربين لا يرضخون للسطحية، إلى أدباء يرون في الطفولة معركة يجب أن نربحها بقوة الأخلاق، لا بالمال، ولا بالصوت العالي.
أديب الطفولة في زمن التيه
ويا للغربة! أن يكون هذا الأديب العظيم حيًّا بيننا، ولا يُدرَّس في الجامعات، ولا يُمنح ما يستحق من اعتراف وتكريم في كل مدينة عربية، من الدار البيضاء حتى بغداد.
في الوقت الذي تُطبع فيه كتب عديمة القيمة بملايين النسخ، ويُحتفى بمن يكتبون التفاهة على أنها عبقرية، نجد من هو مثل الدكتور بشارة مرجية، قد قدّم أكثر من سبعين عملًا أدبيًا تربويًا راقيًا، وهو لا يزال يكتب، ويترجم، ويبحث، ويُعلم، دون صخب، دون استعراض، كما لو أنه يكتب لأجل النور فقط.
أقولها بصوتٍ عالٍ
إنني أطالب وزارة الثقافة الفلسطينية وكل وزارة تعليم عربية أن تُدرج مؤلفات الدكتور مرجية ضمن مناهجها. ليس لأننا نحبه فقط، بل لأنه يستحق. لأنه كتَبَ ما يُصلح الطفل، ما يحميه من الخوف، من الجهل، من الكراهية.
أطالب بإقامة مؤتمر أدب الطفولة باسمه، ليكون قبلة لكل من يريد أن يسلك هذا الطريق الصعب والنقي.
وأقولها بصوتي، صوت امرأة فلسطينية عربية حرة:
أنا فخورة جدًا جدًا بالدكتور بشارة مرجية، كما يُفخَر بالكنوز النادرة، كما يُفخَر بالمطر حين يهطل على أرضٍ عطشى
[email protected]
أضف تعليق