المحامي إبراهيم شعبان

يجتمع الرؤساء والملوك والأمراء والوزراء والخبراء والأمناء لدعم مدينة القدس ومواطنيها في وجه الإحتلال الإسرائيلي، وتنعقد المؤتمرات والجلسات والهيئات واللجان والمحاكم في مدن العالم المختلفة لبحث موضوع القدس تحت الإحتلال الإسرائيلي، فتكون النتيجة في الحالتين، خطب عصماء وبيانات وقرارات وتحيات وإدانات وتضامنات وتصريحات، تركن على الرف أو تحفظ في الجارور، وكفى الله المؤمنين شر القتال.

أدمن أهل المدينة المقدسة مثل هذه الحركات وهذه اللقاءات من زمن طويل، وانفرجت أسارير الكيان الإسرائيلي لمثل هذه الإرهاصات المتكررة التي تسر الناظر والسامع مؤقتا، لكنها لا تغير من الواقع المرير الذي يعيشه المقدسيون قيد أنملة. وهكذا يستمر الوضع الراهن للمدينة المقدسة، لفترة خمسة عقود ونصف دونما تغيير جوهري مع أن الحلول لمشاكلها في متناول اليد ولا تحتاج عبقرية ولا حكمة فريدة بل تنظيما وإرادة ومالا قليلا.

تعالوا نبتعد قليلا عن التنظير، ونقترب من واحدة من مشاكل القدس العديدة من تفريغ وإبعاد وهدم وضرائب وتنظيم وترخيص وسحب هويات ولم شمل وتعليم وصحة، وهي واحدة ومن أهمها على الإطلاق أزمة الإسكان المستفحلة والتي لها أبعاد وطنية واجتماعية وسياسية وديموغرافية. ولن يتم تناول مشكلة الإسكان من جميع جوانبها، لأن هذا الأمر واسع جدا ويحتاج إلى كتاب وليس إلى مقال. بل سيتم تناول جزئية منه تتناول موضوع التسهيلات المصرفية لمن يبني بيتا متواضعا ، أو يرغب في شراء شقة متواضعة مساحتها مائة وعشرين مترا مربعا على الأكثر. وألحديث هنا حصرا عن البناء المرخص الذي فرضته أوضاع الإحتلال الإسرائيلي بعد عام 1967.

لنقرر أن وضع الملكية العقارية الفلسطينية في القدس شائن وغريب ومشكل، يشوبه كثير من التساؤلات بسبب القوانين الإسرائيلية المجحفة، وتعليمات البلدية التعسفية، وقضية التظيم المتحكمة ، والتمييز العنصري السائدة، وصلاحية وزارة الداخلية وتحكمها. يكفي أن نعلم أن هناك قانونا لأملاك الغائبين مطبقا في القدس يتهدد ملكية المقدسيين العقارية، يضاف إليه اليوم قضية التسوية العقارية في القدس الشرقية.

وكذلك نرى أن معظم الأراضي الفلسطينية على كثرتها مصادرة في القدس الشرقية، فرغم أنها تبلغ أكثر من سبعين ألف كلم مربع أي أكثر من سبعين مليون دونم إلا أن المتبقي للفلسطينيين المقدسيين أقل من عشرة بالمائة، وكثير منها خضراء وغير منظمة ، وحين تنظيمها سيتم اقتطاع أربعين بالمائة منها لصالح بلدية القدس. علما بأن رخص البناء في القدس في تناقص شديد مع قضية التشديد على موضوع الملكية. يكفي أن نعلم أن السلطات الإسرائيلية لم تبن بيتا واحدا للمقدسيين بدل ملايين الدونمات التي صادرتها من أملاك المقدسيين. ومن نافل القول أن الأجهزة الإسرائيلية منذ احتلالها المدينة المقدسة وضمها، تقوم بتنفيذ سياسة تطهير عرقي وتضع العراقيل لأي نمو فيها وتنئى عن أي حل لمصلحة المقدسيين، لكن أهلها تحدوا كل ذلك وأظهروا صمودا ومقاومة قل مثيلها.

لنتفق أن كلفة ترخيص المتر المربع للبناء في بلدية القدس تبلغ خمس مائة دولار أمريكي، بينما هي في الدول المجاورة في حدها الأقصى لا تتجاوز تسعة دولارات أمريكية للمتر المربع وأقلها خمسة دولارات. وبالتالي فإن ترخيص شقة واحدة في القدس، مساحتها مائة وعشرون مترا مربعا، يبلغ حوالي ستين ألف دولار أمريكي زيادة أو نقصانا. قطعا، الأمور لا تقاس بمثل هذه الحدّة أو الدقّة بل هي تتراوح بالمساحات للشقق وعددها. وعادة من يتقدم لترخيص بناء لا يتقدم لترخيص شقة واحدة يتيمة، بل يفضل أن يكون الترخيص لشقتين أو أكثر، أما من يشتري شقة فيكتفي بواحدة لأن الشقة الواحدة فوق طاقته.

وعليه فمن يقدم طلبا لترخيص بناء سيدفع كل مدخرات سني حياته - إذا توفرت - ثمنا لرخصة بناء مؤقتة ستفقد صلاحيتها إن لم تنفذ خلال فترة زمنية قصيرة جدا وهي عام واحد. وبعدها إذا لم يجد صاحب الرخصة تمويلا للبناء ، فستذهب الرخصة أدراج الرياح ويفقد مدخراته، وقد يفقد حقه في السكن. قطعا، هذا الشخص لن يلجأ للبنوك الإسرائيلية للإقتراض حيث الرفض المتوقع والفائدة مرتفعة جدا.

وهذا ينطبق على من يود شراء شقة في القدس، فليس هناك من شقة يقل سعرها عن نصف مليون دولار أمريكي إذا وجدت مثل هذه الشقة. فلو وجد الشاري المفترض توفيره لمائة ألف دولارعلى مدى عمره ليقدم الدفعة الأولى من ثمن الشقة، فمن أين له بقية الثمن، ومن سيقدم له مثل هذا القرض الكبير وعلى مدى سنين طويلة حتى يتمكن من دفعه بأقساط ميسرة. والمشكلة ستتعقد أكثر إن كان هذا القرض بفائدة بنكية كبيرة أو تزيد عن اثنين بالمائة.

من هنا أقدم اقتراحي بتقديم تسهيلات مصرفية سخية أو دعم لشخص قانوني له ذمة مالية وهيئة عامة ومجلس إدارة ومدقق حسابات قانوني مثل مجلس الإسكان في القدس حتى لا تضيع الأموال هباء منثورا، من أجل تقديم قروض مالية كبيرة لفترة زمنية طويلة مرفقة بضمانات مالية قوية بفائدة بسيطة أو منعدمة، وكان للبنوك المحلية تجربة سابقة في هذا المجال، لكنها مجمدة حاليا وتحتاج إلى تحريك. وهو ما يشبه المورغج MORTGAGE في الولايات التحدة الأمريكية. ذلك ان قرض الإسكان في القدس مكلف جدا وباهظ التكاليف، ولا يمكن تشبيهه بالقروض التجارية القصيرة، فسداده في خمس سنين أو عشرا أمر عبثي. وبالتالي هو يحتاج لتمويل سخي للحاصلين على رخص بناء، وهذا الأمر ممكن فنيا وفي المقدور تنفيذه عمليا إن خلصت النوايا، سواء من جهات تمويلية عربية أو إسلامية أو فلسطينية حصرا. ومن خلال إعادة تدوير القروض يقوم الجسم المصرفي أو مجلس الإسكان في القدس بتمويل القروض الجديدة، وهكذا دواليك. وهذا ما قام به مجلس الإسكان في القدس على مر الزمان منذ تاسيسه.

المهم أن يكون القرض الإسكاني كبيرا وطويل الأجل وحسنا وفائدته منعدمة أو قليلة جدا وضمانات سداده عالية. بكلام آخر، الإقتراح لا يطالب أحدا بصدقة أو بحسنة بل قرضا حسنا يسدد على فترة زمنية طويلة تستطيع البنوك العربية أو المحلية أو الصناديق العربية أو المحلية أو الدول أيا كانت جنسيتها أن توفره بجرة قلم أو تخلق جسما يوفره لهذا الغرض. وللتذكير أن البنوك العربية والإقتصادات العربية والصناديق العربية خسرت في الأزمة المالية الأخيرة مليارات الدولارات وليس العشرات التي نطلبها.

من المفهوم أن مثل هذا الإقتراح سيجر وراءه ذيول سياسية ونقاشات عقيمة وأرباحا وخسائروحسابات وغنائم، لكنه في الصميم اقتراح من برنامج وطني مهني عملي شامل لتثبيت صمود المقدسيين على ترابهم ، وإفشال الخطط الإسرائيلية في تهجيرهم إلى خارج مدينتهم وقدسهم . وهو يفوق الخطب والقرارات والبيانات والإجتماعات من ناحية عملية، وفي النهاية هو يقدم طحنا ودقيقا، فالأفعال دائما أقوى من الأقوال.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]