حملت الأنباء في نهاية العام الميلادي 2022خبرا خطيرا مثيرا للغضب، يفيد أن " أرض الحمراء " التي في حيازة آل عوض سمرين الشرعية من أكثر من سبعة عقود بعقد إيجار من دير الروم الأرثوذكس، الواقعة في منتصف سلوان وتقاطعاتها وقلبها، قد تم تسريبها لجمعية إلعاد الإستيطانية بعقد إيجار لمدة تسعة وتسعين عاما موقع من ممثل لدير الروم الأرثوذكس في عام 2004 كما نشرت وسائل التواصل الإجتماعية، وهي خطوة تمهيدية تسبق البيع التام عادة. ولم تضيع جمعية إلعاد الإستيطانية وقتها تحت حراسة الشرطة الإسرائيلية، بل بادرت فورا إلى تركيب الأسيجة وكاميرات التصوير، وتغيير الأبواب لهذه القطعة الإستراتيجية المشجرة الخضراء الواقعة في قلب سلوان الممتدة على أكثر من خمس دونمات.
في خضم كل ذلك التسريب، ستشنف آذاننا تلك البيانات والتصريحات والتبريرات والبالونات والمهدئات والتجاهلات والتسريبات التي ما فتئت تطلقها الكنيسة اليونانية لذر الرماد في العيون. وجميع الوسطاء واللجان الرسمية وغير الرسمية، من داخل الطائفة ومن خارجها،عاجزون عن وقف سلسلة هذه التسريبات التي طالت أراضٍ كثيرة في فلسطين. وفي المقابل لم يصدر أي رد فعل أو تعليق على هذا الفعل الخطير لا من جهة رسمية أو غير رسمية فلسطينية أو غيرها، حتى الجهات الشعبية المعنية صمتت.
فبالأمس بيعت من هؤلاء الكهنة وكلهم يونانيون، أراضٍ في قيسارية واليوم في الطالبية وغدا في سلوان، وكذلك في مار إلياس، ولمن نسي بيعت عقارات دير مار يوحنا وفندق البتراء والإمبريال في القدس العتيقة وداخل أسوارها، وتذكرهم أراضي مار سابا في بيت لحم وجبل أبو غنيم، وأرض الشماعة في الثوري في سلوان، وأرض المصلبة في غربي القدس وحديقة الجرس والطالبية والكنيست والمتحف والقطار. القائمة طويلة والتعداد طويل والخافي أعظم. وكأن السياسيين الفلسطينيون ينتظرون دولة بدون أرض وبدون إقليم، وهم في الخيال يسبحون.

أرض الحمرة كما يسميها السلاونة، جزء أصيل من تاريخ سلوان من زمن طويل وراسخة في الذكرى السلوانية المقدسية الفلسطينية، فجميع السلاونة ومن زار سلوان أو عاش فيها، أو مروا بها أو عملوا فيها أو تتلمذوا في مدارسها، عشقوا منظرها وشجرها وخضارها وأَنِسوا لوجودها وأُعجبوا بثمرها وبخاصة تينها ومشمشها، ومروا بجانبها ووقفوا على حائطها وتواعدو عندها.
حافظت عائلة آل عوض سمرين السلوانية القريبة من الأرض، على هذا الإرث الممتد لعشرات السنين، فكانت تزرع وتقطف ثمار هذه الأرض، وتدافع عنها بكل ما أوتيت من قوة وبخاصة في وجه الخطر الإستيطاني تهديدا وإغراء. وبقيت ارض الحمرة مصونة محمية، إلى أن وقع الخطر الداهم الذي تمثل في قيام ممثل الكنيسة الأرثوذكسية بتوقيع عقد إيجار لمدة 99 سنة مع شركة وهمية ( أوف شور ) تابعة للمستوطنين عام 2004.
للأسف الشديد، تقوم هيئة دينية مثل دير الروم الأرثوذكس ولها تاريخ طويل في التسريب يصعب تعداده، ويفترض أنها تحرص على رعاياها العرب الفلسطينيين المسيحيين الأرثوذكسيين ومصالحهم وأملاكهم وتذود عنها، بتسريب عقاراتهم وهم في أمس الحاجة لها بل يعانون أزمة إسكان طاحنة. والأخطر أنها تسربه لعدو الشعب الفلسطيني في مقابل ثمن بخس.
ويجب أن يكون واضحا لبطريركية الروم الأرثوذكس، وبخاصة لكهنتها اليونانيين، أنها لا تملك هذه الأراضي الفلسطينية، بل إن مالكيها الحقيقيون هم الأرثوذكس المسيحيون الفلسطينيون العرب، ولا أحد سواهم عبر السنين . فمسيحيوا الطائفة العرب هم من نذر هذه الأملاك للكنيسة ولمصلحة رعيتها وليس للكهنة سوى دورا شكليا في هذا المقام. ولم يدر بخلد واحد منهم أن تقوم الكنيسة أو أحد ممثليها بتسريب أرض وعقار الكنيسة كما حصل في أكثر من مكان في القدس القديمة حيث لا يملك أحد التصرف بهذه العقارات الكنسية سواهم . عقارات الكنيسة الأرثوذكسية كثيرة ومنشرة في كل بقاع الأرض الفلسطينية ومقيد التصرف فيها لمصلحة فلسطينيي الطائفة الأرثوذكسية ورعايتهم. وأي تصرف آخر هو تصرف باطل ولاغ .
وإذا كان الأمر كذلك ، فلم السكوت عن تصرف أي كاهن مهما علت رتبته أو انخفضت قام بتسريب أرض أو بناء للدير للمستوطنين، ألا يستوي مع المواطن العادي المسرِّب. الا يشجع السكوت عن مثل هذه التصرفات لمزيد من التسريبات. ودعونا نتساءل هل يتمتع الكاهن باية حصانة قضائية أو أفضلية عن غيره. وهل تمتنع محاكمته بذريعة أنه رجل دين. ولماذا وجدت القوانين في فلسطين والأردن التي تلاحق وتجرم فعل من يقوم بتسريب عقار للمستوطنين، أليس لتطبيقها على الجميع . هل وجدت من أجل تطبيقها على المسربين العاديين أم يستثنى منها الكهنة والشيوخ بحجة أنهم رجال دين مثلا؟! وهل نسينا ما تعلمناه عن قاعدة إقليمية القانون وتطبيقها الإقليمي على كل من اقترف جريمة على الإقليم الفلسطيني أو الأردني. أي تمييز عنصري هذا، بل أية فضيحة قانونية ودينية وأخلاقية هذه.
غير مفهوم وغير مقبول هذا القصور السلطوي في ملاحقة المسربين وبخاصة إذا كانوا رجال دين أيا كانت ملتهم، سواء على إطار السلطة القضائية ممثلة بجهاز النيابة العامة في التحقيق معهم وتقديمهم للقضاء العادل، أو على إطار التعامل معهم رسميا واعتمادهم، أو على إطار طائفتهم وعدم مقاطعتهم ورفض قداديسهم وأنشطتهم وحتى حضورهم. المطلوب موقف حازم واع متبصر مسؤول، ووقف السياسة الخجولة المثمثلة بغض البصر، التي لم تنتج سوى مآس وكوارث، فكفانا صمتا وشللا.
نزاع الطائفة الأرثوذكسية العربية مع كهنتهم الرفيعي الدرجةكالمطارنة والبطاركة تاريخي وقديم، وقد حاولت الدولة الأردنية حله عبر تشكيل مجلس كنسي مختلط مكون من رجال دين مسيحي ورجال مسيحيين مدنيين بموجب قانون رقم 27 لسنة 1958. وما أن نشبت حرب 1967 حتى بادرت الكنيسة الأرثوذكسية بتجميد هذا المجلس وصلاحياته واستفردت بالصلاحيات كافة، وكأنها كانت تبتهل بوقف هذا المجلس الذي يقيم علاقات متوازنة مع الطائفة الأرثوذكسية، فاستجاب الله لدعائها عبر حرب حزيران!
صحيح أن أسّ البلاء يكمن في تعريب كنيسة الروم الأرثوذكس من سطوة الرهبنة اليونانية بعد وفاة آخر بطريرك عربي. لكن هذا المطلب يحتاج إلى وقت وإعداد قد يستغرق زمنا طويلا في زمن نحتاج فيه إلى تجميد صلاحيات الكهنة اليونانيين اللذين يتبوئون المراتب العليا في الكنيسة والتي تخولهم بيوع عقارات الكنيسة كما يزعمون. لذا لا باس من إعادة إحياء المجلس المختلط وتفعيل قانون رقم 27 لسنة 1958 كحل وسط ابتدائي في مواجهة السطوة اليونانية وتحقيق مصالح الطائفة الأرثوذكسية العربية. فالأرض الفلسطينية هي محور الصراع مع الصهيونية، وعلى الجميع إدراك ذلك أيا كان موقعه كاهنا أو سياسيا أو قاضيا أو نائبا عاما، وبدونها تختل موازين القوى الإقليمية اختلالا فاضحا، فإن ضاع الوطن بأرضه فمن يعوضنا عن ركن من أركانه بل ركنه الأهم، لكن طاحونة الله لن تضيعنا، وهي تطحن بثبات!!!




 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]