في تزامن نادر وغير متوقّع، وفي ثلاثة مواقع يبدو أن اثنين منها على الأقلّ منفصلان غير متّصلين، أو بعيدين جغرافيًّا وسياسيًّا، دارت خلال الأيام الأخيرة، أحداث لم تكن لتتزامن لولا " قوة الواقع التي لا تنتظر تصريحًا من أحد، وسيادة التاريخ وكلمته الواضحة التي لا يجادله فيها أحد". وهي أحداث، وإن اختلفت مواقع حدوثها، وتفاوتت حدتها وتباينت منطلقاتها ودوافعها الآنيّة والحاليّة وخلفيّاتها التاريخيّة بكافّة أبعادها ومركّباتها التي سنشرحها لاحقًا، إلا أنها تعيد إلى الأذهان وإلى مركز النقاش، ذلك السؤال الأزليّ، كما يبدو حول كيفيّة بناء الدول (ومنها يشتقّ السؤال حول كيفيّة هدم الدول، وإبقائها عاجزة مفتّتة ومحطَّمة). وهو النقاش حول مقوّمات بناء الدولة وتحديدًا الدولة الحديثة، أي تلك الدولة التي يمكن تعريفها على أنها دولة المواطنة التي يعيش فيها الجميع بتساو في الحقوق والواجبات، وهي دولة المؤسسات والفصل بين السلطات، وهي الدولة الديمقراطية التي يتم تداول السلطة فيها بسلميّة مطلقة بقوة وملكيّة الإرادة الحرّة للجماهير عبر الصناديق الانتخابيّة، و تمثّل جزءًا فاعلًا من محيطها الإقليميّ والدولي، وتقيم علاقات مع جميع دول العالم على أساس المصالح المشتركة لشعوبه، إضافة إلى أنها تعتمد بناء وتمكين الهويّة الوطنيّة الواحدة الجامعة لمكوّنات المجتمع، وتحوّلها إلى منظومة متكاملة من المبادئ والمرتكزات يأتي في مقدّمتها بناء وتعزيز الهوية الوطنيّة للمجتمع، التي تتشكّل من اللغة والتراث التاريخيّ للمجتمع، والقيم الحاكمة لهذا المجتمع ،بالإضافة إلى رؤيته وأهدافه المستقبليّة، والاعتراف الكامل بكلّ المكوّنات للأطياف الموجودة في المجتمع وحقّها الكامل من المواطنة الحقيقة متساوية الحقوق والواجبات مع الجميع، والاستناد إلى الوجود التاريخيّ كأحد المكوّنات التاريخيّة لهذا المجتمع، وليس الأكثرية العدديّة، أو عدد المصوّتين(وسنعود إلى هذا لاحقًا بكلّ ما يتعلّق بنتائج الانتخابات الإسرائيليّة الأخيرة ). وكلّ هذا إضافة إلى عامل أساسيّ يتناساه البعض في بناء الدولة الحديثة، ونقصد حديثة العهد والاستقلال، أو تلك التي تتجه نحو الاستقلال، أو تلك التي تستردّ عافيتها بعد حروب داخليّة فكّكتها وهدمتها، أو حروب خارجيّة هدّمت كافّة مقوّماتها، وهي قضية الجيش الواحد والسلاح الواحد والتي يصوغها البعض – في لبنان مثلًا- على شاكلة القول :" دولة واحدة، جيش واحد وسلاح واحد". وهي عناصر لها أهميّتها الكبرى، بل والقصوى والمصيريّة في ممارسة الدولة الجديدة لصلاحيتها كدولة ذات سيادة، ما يعني أن الجيش الواحد في الدولة المدنيّة الديمقراطيّة هو مؤسّسة سياديّة كغيرها من المؤسّسات السياديّة المتعدّدة، التي نصّ عليها الدستور، كالبرلمان والقضاء ورئاسة الدولة، وهي المؤسّسة التي تتمتّع بالاستقلال والحياد التامّ تجاه النظام السياسيّ القائم (السلطة الحاكمة).
ثلاثة هي المواقع التي أقصدها وتحديدًا في قضية بناء الدولة، أو محاولة البناء والجيش الواحد، وكلّها في حالتنا إقليميّة هذه المرّة، أوّلها إسرائيل، وثانيها العراق، وثالثها مناطق السلطة الفلسطينيّة. وهي بتفاصيلها تجسّد الفارق بين دولة هي العراق تم بناؤها على أسس غير ثابتة اعتمدت تكريس الطائفيّة والفئويّة الدينيّة والعرقيّة والسياسية، وتعدّدت الانتماءات، وسادت فيها الانتماءات الضيقة وتغلّبت على الانتماء الواحد، أو الهويّة الوطنيّة(سادت هذه لفترة ما، ولكن يبدو أن ذلك لم يكن خيارها الحقيقيّ، بل ربما أمر فرضته قوة الحاكم في عهد الرئيس صدام حسين)،أما الثالثة فهي مناطق السلطة الفلسطينيّة وخاصّة تلك المصنفة "أ" وفق الاتفاقياّت الموقعة مع إسرائيل، والتي انعدم فيها السلاح الواحد، وسادت فيها فوضى السلاح، وتعدّدت المجموعات المسلحة، بين دولة حديثة تريد الحياة ودولة تم بناؤها، رغم تحفّظاتي الشديدة على سياساتها وتوجّهاتها، بشكل صحيح ووفق أسس واضحة تضمن ديمقراطيتّها ووجودها ووحدتها، وهي دولة إسرائيل رغم تنوعّها الطائفيّ والعرقيّ، وعلى أساس اعتبارها بوتقة تنصهر فيها المجموعات، وتتلاشى فيها الفروقات، وهو ما كشفت عنه وثائق تم نشرها وعرضها في متحف دافيد بن غوريون تؤكّد فكره وموقفه من كيفيّة بناء الدولة، وفي مقدمتها ما كتبه حول " سيّارات عسكريّة مدرعة في النقب وجيبات عسكريّة وسبعين بندقيّة واستسلام بعض المواقع اليهوديّة خاصّة قرب الخليل "، وبالمقابل ما كتبه باقتضاب حول " فرحة الاستقلال" حين كتب في الرابع عشر من أيار 1948:"حُسِّم الأمر .33 مؤيّدًا ، 13 رافضًا،10 ممتنعين. في تمام الرابعة إعلان الاستقلال وفي البلاد فرحة وسرور كبيران"، وهو ما يؤكّد إدراك بن غوريون لأهميّة الجيش الواحد والسلاح الواحد وأمور أخرى منها النشيد الوطنيّ والعاصمة والعملة القويّة والمستقلة، خاصّة بعد ما شهدته المنطقة هنا في أعقاب قرار التقسيم في التاسع والعشرين من تشرين الثاني، والذي نصّ على إقامة دولتين عربيّة(وليست فلسطينية وهو ما تردّده إسرائيل الرسميّة وتعتمده لتقويض الرواية الفلسطينيّة) ويهوديّة. وهي مواقف وتوجّهات تقدّس فكرة الجيش القويّ والواحد البعيد عن السياسة، بل إنه عنصر من عناصر القوة، وليس أداة بيد السلطة الحاكمة، بل هو من أدوات الدولة السياديّة، ولا يمارس إلا المهامّ المقرّرة له دستوريًّا والمحدّدة بحفظ كيان الوطن وسيادة الدولة من الأخطار، بعيدًا عن الفئويّة والطائفيّة، وتؤكّد الفارق الكبير بين ما كانت عليه المواقف إبّان إقامة دولة إسرائيل عام 1948، وبين ما هو دائر اليوم فيها من حديث ينذر بالأسوأ، حول مصير وماهيّة وصلاحيّات وأهداف الجيش وقوّات الأمن المختلفة بما فيها الشرطة وحرس الحدود، وذلك على خلفيّة الحديث الذي يقترب من التأكيد بأنّ حقيبة الأمن الداخليّ سيتم منحها للنائب اليمينيّ المتطرّف ايتمار بن غفير، وسيتم تغيير اسمها إلى " وزارة الأمن القوميّ" في إشارة واضحة إلى أنها ستنتقل من مرحلة الدولة الواحدة التي يجيء جيشها الواحد لخدمة مواطنيها كلّهم دون استثناء، وعلى اختلاف انتماءاتهم الطائفيّة والعرقيّة والدينيّة والمذهبيّة والسياسيّة وبضمنهم الأقليّة العربيّة التي تشكّل اليوم 22% من المواطنين، إلى دولة يلبس الأمن فيها زيًّا قوميًّا، وليس مدنيًّا بمعنى أنه يستثني بحكم تسميته من هم خارج القوميّة السائدة وهي اليهوديّة، وإلى هذا تُضاف قضية تمكين الوزير من السيطرة على وحدات من حرس الحدود، وهو الحرس الذي ينضوي تحت سيطرة الشرطة داخل إسرائيل، لكنه جزء من الجيش الإسرائيليّ في الضفة الغربيّة يأتمر بإمرة قائد المنطقة العسكريّة الوسطى في الجيش الإسرائيليّ المسؤول عمليًّا عن الضفة الغربيّة باعتبارها حتى في عرف إسرائيل نفسها منطقة ليست تابعة لها أو مُحتلّة ما يمكن أن يؤدّي، بل يُخشى أن يؤدّي ، إلى تحويل هذه الوحدات إلى " جيش خاصّ"، أو مليشيات يسيطر عليها عنصر سياسيّ، ويريدها أن تخدم أجنداته السياسية الخاصّة، وبالتالي تحويل الجيش الواحد إلى فئات مسلحة فئويّة، تملك كلّ منها سلاحها الخاصّ، وتخدم كلّ منها أجندة مختلفة وهدف مختلف قد تصل الأمور حدّ التناقض والصدام والصراع المسلّح، وهو ما كان دافيد بن غوريون قد حذَّر منه، بل عمل كلّ ما بوسعه لمنعه حتى وصل به الأمر إلى إغراق سفينة" التلينا" التي كانت محملة بأسلحة للجناح العسكريّ التابع لحركة " الإيتسل" اليمينيّة المتطرّفة التي أرادت مواصلة الحرب، أو النشاط العسكريّ ضد بريطانيا، كما رفضت قرار التقسيم وأرادت منع قيام دولة عربيّة هنا( سنعود لاحقًا إلى السؤال كيف كان الحال سيكون لو قامت هذه الدولة، ولماذا يتجنّب الباحثون العرب والفلسطينيّون طرح هذا السؤال بجرأة وشجاعة).
قضية الجيش الواحد، وفي تزامن غريب مع الحديث في إسرائيل عن مخاطر تسييس الجيش، وتحويل بعض وحداته إلى مليشيات خاصة، أشغلت الرأي العام في العراق خاصة، حيث و بعد نحو عقدين على إلغاء التجنيد الإجباري ـ"خدمة العلم" بأمر من الحاكم المدنيّ الأميركيّ بول بريمر، ليصبح الانضمام للجيش العراقي تطوعيًّا ، عاد البرلمان العراقي ليبحث مشروع قانون لإعادة العمل بالخدمة الإلزاميّة، التي كانت قد ألغيت عام 2003،أيّده رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسيّ، الذي تحدّث عن أهميّة إعادة التجنيد الإجباريّ، وقال إنه يضمن إعداد جيل من الشباب أكثر قدرة على مواجهة مصاعب الحياة، ملم بالحقوق والواجبات، ومتحفز لحفظ الدولة وسيادتها، ويسهم في تعزيز منظومة القيم والأخلاق والانضباط والالتزام بالهويّة الوطنيّة. وسانده في ذلك نائب رئيس لجنة الأمن والدفاع النيابيّة، النائب سكفان يوسف سندي، قائلًا إن مشروع قانون خدمة العلم هو من أهمّ وأفضل القوانين التي سيصوّت عليها البرلمان العراقيّ خلال الفصل التشريعيّ ستكون له "مخرجات ونتائج هامّة، أبرزها تعزيز الشعور بالوطنيّة، الحدّ من البطالة، وتوحيد وتقرب مكوّنات الشباب العراقيّ بعضهم ببعض بعيدًا عن عناصر الاختلاف، أو الطوائف المختلفة، وبالمقابل يعارضه كثيرون جرّاء بنوده التي لا تضمن تحويل الجيش العراقيّ إلى جيش واحد، ولا تضمن أو تكرّس هويّته الواحدة والقواسم المشتركة، بل إنه يكرّس الفئويّة والانقسام خاصّة وأن الجيش العراقيّ يشمل اليوم نحو مليون ونصف المليون من المجنّدين( ولا أقول الجنود) الذين يدين كلّ منهم لفئة، أو لطائفة، أو لزعيم، أو لتنظيم، وبالمقابل يعارضه كثيرون لكونه، سيشكل في نظرهم وحسب رأيهم، مدخلًا لفئوية متزايدة ومليشيات منفصلة لا بدّ ستصل يومًا ما إلى حالة من الصدام المسلح والحرب الأهليّة التي ذاق العراق الأمرين جرّاءها طيلة سنوات كانت أسوأها سنوات "داعش"، وبرز خلالها اسم الحشد الشعبيّ، وفيلق القدس والفئات الكرديّة المسلّحة وغيرها، حيث برز ت الأصوات المعارضة التي لا ترى أي أسبابـ أو مسوّغات منطقيّة لإقرار القانون سوى محاولة استثماره انتخابيًّا، وكونه سيؤدّي إلى عسكرة المجتمع العراقي، وأنّه في ظلّ الفساد المستشري في العراق لن تكون الخدمة الإلزاميّة سوى رشوة للمكلفين بها من جهة ومورد مالي للضباط الفاسدين من جهة ثانية، فالعراق لا يحتاج إلى مزيد من القوات المسلحة، وبالتالي فإن مشروع قانون التجنيد الإجباريّ هو نوع من العبثيّة والعشوائيّة، خاصة في ظلّ وجود جيش مكوّن من 420 ألف جندي، وجهاز مكافحة إرهاب مكون من 28 ألفًا، وحشد شعبي يدين بالولاء للإمام الصدر، مكون من عدد غير معلن، لكن التقديرات تشير إلى أنه يتكوّن مما يزيد عن 220 ألف جندي مسلح لا يخضعون للقيادة العسكريّة العراقيّة الرئيسيّة والرسميّة، وجهاز أمن وطني فيه عشرة آلاف فرد ، وقوات أمنيّة عددها 680 ألفًا، وما يقرب من 200 ألف في الشرطة التي لا تختلف كثيرًا في تسليحها عن الجيش، أي أن التجنيد الإجباريّ قد يتحول إلى وسيلة لتنظيم الشباب عقائديًّا ليكونوا جزءًا من المنظومة العقائديّة لولاية الفقيه في العراق، وسيجعل من الحشد الشعبيّ والفئات المسلحة الأخرى، جزءًامن القوات المسلحة، وبالتالي سيضمن القانون للفئات المختلفة في العراق قوة إضافيّة عدديًّا من جهة، وموردًا ماليًّا ضخمًا إضافيًّا للحشد الشعبيّ والمليشيّات الفئوية من جهة ثانية.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر جاءت قضية اختطاف جثمان الشاب تيران فرو، ابن قرية دالية الكرمل والطائفة العربية الدرزيّة، من قبل مسلحين لم تتضح هويّتهم التنظيميّة بعد، لكنهم يقينًا ليسوا من قوات الأمن الرسميّة الفلسطينيّة، وبالتالي فإن سلاحهم أبعد ما يكون عن صفة وهدف وتوجّه وأهميّة ودور السلاح الواحد أو السلاح الذي جاء ليخدم الوطن والبلاد والمواطنين سواء كان ذلك بعد بناء الدولة، أو قبل بنائها وخلال بنائها، وكم بالحري أنه قبل بنائها. وفي خضم الحديث عن حقوق مشروعة تضمنها الشرعيّة الدوليّة منها الحق في الاستقلال وبناء الدولة وانتهاء الاحتلال، وهنا بيت القصيد فالفصائل المسلحة التي لا تدين بالولاء لسلطة واحدة، بل تدين كل منها بالولاء الفئويّ الضيق لفصيل كهذا، أو ذاك ولقائد هذا أو ذاك تموّله وتدعمه جهة خارجيّة كهذه، أو تلك تريد من خلال ذلك تكريس سيطرتها، ودعم وتحقيق أجنداتها الخاصّة، وهي ليست بالضرورة مشابهة ومماثلة ومطابقة للمصلحة القوميّة، هو السبيل إلى وضع العراقيل في طريق بناء الدولة، ونزع الدعم عنها وتقليل التأييد العالميّ، بل أحيانًا الإقليميّ وحتى المحليّ لها، فالمطالبة بالحريّة وانتهاء الاحتلال حقّ، بل ربما واجب إنسانيّ ووطنيّ وأخلاقيّ، والبحث عن وسائل لإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين هدف مشروع، وحالة تكررت بين الدول عبر صفقات لتبادل الأسرى كما حدث أكثر من مرة بين إيران والولايات المتحدة، وبين روسيا وأميركا وغيرها وغيرها، ولكن أضرار الانفلات المسلح وتضخم أعداد الجماعات المسلحة، وانعدام مركزيّة قيادتها ووضوح رؤيتها وكونها تعمل بطريقة مدروسة، وليس وفق نزوات شرقيّة وعنجهيّات مسلحة شرقيّة بامتياز، دون وحدة وتناسق وتضافر أهدافها ومصالحها خلط الحابل بالنابل، ليتم اختطاف جثة الشاب العربيّ الدرزيّ تيران فرو في مثال صارخ على خطورة فوضى السلاح، وخطورة الحالة التي يعتقد كلّ حامل بندقيّة أنه جيش جرَّار، وأنه المسؤول عن حماية وإنقاذ الوطن، وأنه يمكنه أن يفعل ما يشاء ومتى يشاء، ولمصلحة من شاء ومتى شاء دون حسيب أو رقيب، في عمل مرفوض وممجوج ومستهجن جانب العنوان الصحيح، وجانب الموقف الأخلاقيّ والإنسانيّ. وهو ما تطالب به السلطة الفلسطينيّة العالم، لكن "المسلحين في المليشيات يرفضون الالتزام بالطلب ذاته" في رفض صارخ للقول:" أولى بك فأولى"، وبالتالي عاد الانفلات بضرر داخليّ وإقليميّ وعالميّ كبير قد لا يتم إصلاحه خاصّة وأنه نزع بالنسبة للبعض الشرعيّة عن نضال من أجل الحرية والاستقلال وإنهاء الاحتلال، وسبَّب أزمة لو طالت لكان من شأن ذلك أن يزيد من التعقيد والضرر والمؤشرات كانت واضحة بانتهاء الأمر بسرعة في تأكيد على أن ما كان سيء الإخراج منذ البداية لن يكون إلا سيء النهاية، وسيعود بالضرر الجسيم.
هذا الحادث والصمت الكبير الذي رافقه وامتناع الكثيرين من المفكرين والكتاب وأصحاب الأقلام عن انتقاده، أو قيام بعضهم وهم قلّة قليلة للغاية بانتقاده ليس لسبب إنساني وعقائديّ، بل لأنه " أساء إلى الطموحات الفلسطينيّة" دون التعمق في النقاش وتسمية الأسماء بأسمائها، ووضع الإصبع على موضع الألم بشجاعة ووضوح والتحذير من تعدّد السلاح وخطر ذلك على مسيرة بناء الدولة، أو محاولات بنائها، بل على كيانها حتى لو كانت دولة عريقة كالعراق الذي تتعدّد فيه الأسلحة والانتماءات والولاءات بين العسكريين والمسلحين. وهو ما أدّى إلى تفكّك البلاد ومنعها من الانتعاش، والعودة إلى الحياة والنجاح بعد انتهاء الغزو الأميركيّ، ومعه ما يعيشه العالم العربيّ بعد الربيع العربيّ، والذي عاد عليه وبالًا وسوءًا، كما حدث في تونس وليبيا ومصر، يعيد إلى الساحة، بل يطرح بقوة مسألة بالغة الأهميّة تسود العالم العربي عامّة والشرق خاصّة، ومعه دول العالم الثالث ، وهي انعدام المساءلة والسؤال، أو الامتناع عن مراجعة ما حدث وطرح الأسئلة والبحث عن الأسباب والمسبّبات، ليس جلدًا للذات، بل مراجعة واعية للأحداث، وسعيًا إلى استخلاص العبر منها، يحدث في وهذا يعيدني إلى السؤال الذي أشرت سابقًا حول قضايا تكاد لا يناقشها أحد وكأنها " محظورات لا تبيحها الضرورات" أو محرّمات وطابوهات ومُسَلَّمات بديهيّة، ومنها أسئلة كثيرة حول الشأن الفلسطينيّ، وبضمنها السؤال حول ما كانت ستؤول إليه الأوضاع لو تمّ قبول قرار التقسيم الذي ضمن قيام دولة عربيّة في ثلثي أراضي فلسطين الانتدابيّة، ولو لم يرفض العرب باسم الفلسطينيّين دون حقّ، ومعهم قيادات فلسطينية منها الحاج أمين الحسيني الذي عوَّل على الزعيم النازي أدولف هتلر، وهو سؤال يزداد أهمية في السنوات الأخيرة خاصّة بعد اتفاقيّات أوسلو المتعثّرة وتجمّد الوضع القانونيّ للسلطة الفلسطينيّة على صعيد الأمم المتحدة واعتبارها بصفة مراقب، وليس دولة كاملة الصلاحيات. ويتمحور حول ما إذا كانت قضية بناء الدولة في شرقنا تحظى بالاهتمام أو ما إذا كان شرقنا وعالمنا العربيّ يجيد بناء الدول، وإقامة مؤسساتها وضمان أمنها وسلامة مواطنيها، ووحدة السلاح ، وأقصد هنا امتناع الباحثين الفلسطينيّين والعرب عن طرح السؤال سابق الذكر حول ما أراده العرب والفلسطينيون في تلك الفترة التي رفضوا فيها قرار التقسيم . وهل كانت لديهم خطط واضحة لما سيحدث بعد ذلك، سواء كان بعد إقامة الدولة بقرار سياسيّ دوليّ، أو بعد انتصارهم في الحرب ضد المجموعات المسلحة اليهوديّة، وبضمن تلك الخطط، هل كان من الواضح لهم كيف سيتصرّفون مع اليهود المتواجدين في فلسطين الانتدابيّة وعددهم في حينه 628 ألفًا؟ وهل فعلًا كانت هناك خطط ضمان بقائهم كمواطنين في الدولة العربيّة حديثة العهد؟ أم خطط لطردهم، أو إبادتهم، أو إلقائهم في البحر، كما الرواية الصهيونيّة والإسرائيليّة واليهوديّة؟ وكلّها أسئلة من الواجب طرحها وقضايا يجب دراستها استنادًا إلى وثائق يمكن العثور عليها في أرشيفات الدول، أو المؤسّسات البحثيّة، علمًا أنه لا يزال أرشيف الدولة في إسرائيل، إضافة إلى أرشيفي وزارة الأمن والجيش الإسرائيليّ، في حالة حجبٍ مستمرّة منذُ إنشاء الدّولة في العام 1948 وحتّى اليوم، مع اختلاف ممارسات الحجب ومنع الوصول، إلّا أنّ المنع يظلّ هو الثابت المتغيُّر خاصّة فيما يتعلّق بسياسات الدّولة تجاه مواطنيها العرب. فعلى الرغم من أن قانون الأرشيفات في إسرائيل يحدّد مبدأ مفاده أنّ "كلّ شخص مخوّل بالاطّلاع على المادّة الأرشيفيّة المودعة في أرشيف الدّولة"، فإنّ المعطيات تظهر أنّ الجمهور يمنع من حقّ الوصول إلى الغالبيّة الساحقة من موادّ الأرشيفات الحكوميّة الكُبرى، خصوصًا أرشيف الدّولة، الجيش ووزارة الأمن، إذ إن الأساس هو الإخفاء والاستثناء هو الكشف.
في هذا السياق يجب الانتباه إلى أن المؤرخين العرب والفلسطينيين، وتمامًا كما امتنعوا عن طرح الأسئلة بكل ما يتعلّق بتصرّف الدول العربيّة والحكام العرب، باستثناء المملكة الأردنيّة الهاشميّة، التي كانت مواقفها واضحة مؤيّدة للحقّ الفلسطينيّ رافضة لأيّ حلول جزئيّة، أو " وسطيّة"، أو الضم، أو صفقة القرن، أو غيرها، امتنعوا عن طرح الأسئلة بالنسبة للربيع العربيّ وخاصّة في مصر، لأنها الدولة الأولى التي زارها، أو اكتسحها، أو اجتاحها الربيع العربيّ، وفي مقدمتها الأسئلة حول نتائجها المعاكسة لتلك التي وضعها " المبادرون إليها ومحركوها" من الجيل الشاب والمثقفين الذين سئموا حكم العسكر، وسلطة الرجل الواحد والدكتاتوريّة، وخرجوا إلى الشوارع بدءًا بميدان التحرير في القاهرة، مطالبين بالحرية والاستقلال والعيش الكريم وفرص العمل والتعليم. وهي الأسئلة التي يطرحها بعض الكتاب والسينمائيين، ومنهم الكاتب علاء الدين الأسواني ( مؤلّف روايات رائدة منها "عمارة يعقوبيان" و شيكاغو" ) في راويته الأخيرة، "جمهوريّة كأن"، التي يتحدّث فيها عن ثورة ميدان التحرير، من خلال شخصيّتين هما الفتاة أسماء الشابة التي تدرِّس اللغة الإنجليزيّة، ومازن المهندس الشاب خريج جامعة القاهرة، والذي يعمل في مصنع للإسمنت، واللذين تربطهما علاقة حبّ" افتراضيّة" ، قوامها رسائل إلكترونيّة يتبادلانها تكشف عالمهما المخفيّ، وتؤكّد طموحاتهما الأوليّة، أو آمالهما المعقودة على ثورة يناير ومظاهرات ميدان التحرير، التي قادها جيل الشباب ابتداءً من 25.1.2011، والتي تلخّصت في نيل الحقوق والحريّة، وإفساح المجال أمام أصحاب المؤهّلات والقدرات، ومنحهم آفاق التقدم والتطور والازدهار، وضمان الاستقلال الاقتصاديّ والفكريّ والاجتماعيّ، وتغيير نظام الحكم ليس بأشخاصه، بل بأسلوبه وطريقة تحكّمه بالمواطنين، أو بالحرى استبداده بهم وهضم حقوقهم، وكيف تحوّل الأمر، بل انقلب رأسًا على عقب، ليصبح لعنة قتلت أحلامًا تفتّقت كالزهور ثمّ ما لبثت أن ذبلت وذوت، بل تتحول إلى كابوس ينتهي إلى حالة ربما تكون أسوأ ممّا كانت عليه قبل ذلك، وأَدّت إلى الأبد وهمًا كشف وحرَّك خبايا النفوس، وشحذ الأحلام كانت بؤرته ميدان التحرير، بدت مصر معه ، أسوة بتعبير توفيق الحكيم، وكأنها استعادت الوعي والروح على السواء. وما لبث الأمل أن غدا سرابًا، أبقى الأكاديميين دون أُفق للتقدّم، وأبقى الطامحين إلى الحريّة والتعدديّة والانفتاح رهائن حكم قاده الإخوان المسلمون، ومن بعده حكم الرجل الواحد حتى العام 2034، ورهائن بين المنشود من أحلامهم بالتقدّم والتطوّر، والذين ينتظرهم مستقبل باهر، وبين الموجود، وهو الوضع الذي يحول دون تنفيذ وتحقيق المنشود، بل يأتي بعكسه، ويمنع أي انفتاح وتطور وتقدم، كما قال أحدهم في مسرحية المخرج لنين الرملي" سعدون المجنون" والتي يقول بطلها :" نحن من تخرّج من الجامعات، لا نجد عملًا ولا شقة فارغة، ولا نجد عروسًا تقبلنا، ويبدو أن السلطات لا تريدنا أن نحب، أو نتزوج، أو نشارك في نشاطات فنية ونسهر ونتفرج على حفلات الغناء والرقص، بل يريدون لنا أن ننتحر، أو نلجأ إلى السلاح؟ ما شأني والسياسة والحروب . أريد إجابات بسيطة عن أسئلة أساسيّة أولها ماذا أفعل، وكيف أتدبّر حياتي.. كيف أعيش؟" .
ختامًا، هذه الأسئلة والتساؤلات المطروحة ليست فلسفيّة، وليست من شأن الكتاب والمفكرين فقط، بل إنها أسئلة تشكّل جوهر الدولة وماهيتها، وتثبت أن بناء الدولة لا ينتهي بإعلان استقلالها، وتشكيل حكوماتها، بل إنه يبدأ حينئذٍ ويمتدّ إلى ما بعد ذلك من ضمان للحريّات والحياة والعيش الكريم والاهتمام بالمواطن وحقوقه، وضمان مستقبله، وتوفير الإجابات على كافّة أسئلته. وهو الحال في الدول الحديثة التي تبقى وتصمد أمام الهزات والتغيرات، فقوامها مواطن تجمعه بالآخرين هويّة جماعيّة، وهمّ مشترك يمكنه الاهتمام به، والعمل الجماعيّ لتغيير الحال، فالمقوّمات الأساسيّة، أو الاحتياجات الأساسيّة متوفّرة، أما عالمنا العربيّ فإنه بعيد عن ذلك، فكيف لمواطن يصارع كلّ لحظة لضمان لقمة عيشه أن يشارك في عمليّة بناء الدولة، وأن يشعر بالانتماء ، دون أن تتم الإجابة عن أسئلته والاهتمام بحاجاته، أو حتى الالتفات إليها أصلًا؟ أسئلة كثيرة، أما الإجابات عنها في عالمنا العربيّ فإنها معدومة، أو تكاد تكون كذلك، خاصّة وأن السلطات القوية لا تخضع للرقابة مع انعدام سلطة القانون واستقلال القضاء، أو لانعدام ثقة العامّة به، إذ يعتبرونه "سوطًا في يد الحاكم، وليس ملاذًا ومفرًّا للضعفاء والعامّة"، وبالتالي يفقد مقومّات وأسباب وجوده، كما قال المشرّع الأمريكي الشهير إلكسندر هاميلتون:" السلطة التشريعيّة تملك حقيبة المال والسلطة التنفيذيّة تملك السيف، أما السلطة القضائيّة فإنها الأضعف بين السلطات، فليس لها إلا ثقة الجمهور ".
2.12.22
البريد الألكترونيّ: [email protected]
[email protected]
أضف تعليق