استلّ القدر سيف الفراق من غِمد الزّمن بوجه الحياة، وقطع حبل العمر الذي تمسّك به الرّاحل جورج الدُّر، وسقط في غيهب الموت. لقد كان الصناعي العصامي الذي سار في دروب الجهُد والتضحية والصدق، لمدة ستين عامًا وأكثر، حتّى كوّن برفقة شقيقه هنري، أبي جوني، هذا المجمع المهني الضّخم، الذي يحتوي على عدّة ورشات، كل واحدة منها تروي قصّة نجاح.
وقف الرّاحل على كل تفاصيل هذا المجمّع الصغيرة قبل الكبيرة، طوّره رويدًا رويدًا في رحم العناء، مَنَحَ الآخرون فُرَص السّعي الجاد نحو الهدف المنشود لتحقيق ذاتهم، إلى أن طال نجم النّجاح الذي ما زال يشعُّ عطاءً، حتّى هداه إلى مطرح الاستمراريّة. غادرنا أبو زاكي وهو يجلس على عرش مهنته باعتزاز، رأى صنيعه يفرش له سجّادة الفخر.
تعرفتُ إلى الراحل منذ أربعين عامًا، في كراج الشّمال الذي يضم وكالة سيّارات فولكسفاجن وأودي حينها، تربطنا به أواصر قرابة عائلية من جهة والدتي أمدّ الله بعمرها... عاملنا وكأنّنا جزءًا من أفراد عائلته، ولسنا مجرّد زبائن عابرين، بل دائمين، خصّنا بمعاملة مميّزة، وشملنا بمحبته ولباقة حديثه السَّلِس، الذي انساب احترامًا، لاطفنا بنُبله، بقي مُحافظًا على شكل العلاقة معنا، حافظًا إيّاها في يوميّاته الشخصيّة.
هذه الصّفات ورثها عنه أولاده، الذين يُديرون اليوم هذه المصلحة، تمامًا كوالدهم، علّمهم كيفيّة تقدير النّاس الذين يزورون معرض السيّارات، من منطلق اجتماعي محض وليس من منطلق تجاري. لقد ميّز الرّاحل سِحر لباقته، الذي ظلّ يرافقه طوال سيرة حياته العامّة، متعطّرًا بعطر سماحته. أحَبّه الموظفون الذين يعملون في أقسام المبيعات والتسويق وخدمة الزّبائن.
عمّال الكراج بكافة أقسامه أحبّوا طريقة تعاطيه الإنساني غير المتعالي، اعتبرهم جزءًا لا يتجزّأ من العائلة المهنيّة التي راعت شرف المهنة، واعتبروا الاستجابة لإرشاداته بمثابة نصائح تعزّز من انتمائهم لهذه العائلة. لم يعطّلوا العمّال ِيومًا سير العمل، لأن حقوقهم محفوظة، وكان يُقَدِّر الرّاحل التعب الذي يتكبّدونه، ليقدّموا أفضل ما اكتسبوه من خبرات، وفاءً لجودة الخدمة العالية، لأنّهم يذكّرونه بشبابه. لم تأخذ علاقته مع العمّال والموظّفين طابع الرئيس والمرؤوس، بل ساد بينهم الأمانة والثقة المتبادلتَين.
كان الرّاحل يهتم بالزّبائن، والأهم عنده، رضاهم عن الخدمات المتوفّرة. لأنّ همّه الدّائم مصلحة الزّبون أوّلاً، ومنحه كامل العناية التي يستحقها. هذا الأمر كان يتجلّى عند حدوث عُطل كبير في سيّارة ما، فكان يتدخّل شخصيًّا، يعمل ما في وسعه كي يشمل التصليح ضمن الكفالة، هذه الصّفة دليل السّمعة الحسنة والمحترمة التي اعتبرها الرّاحل حجر أساس نجاح مسيرته. إدارة الوكالة الرّئيسيّة، تقدِّر إخلاص تعامله معها، برُقيّ رجل الأعمال، لأنه استطاع الحفاظ أيضًا على الصّيت العالمي للعلامات التجاريّة لمجموعة فولكسفاجن.
خلال زيارتي الأخيرة لإجراء الصّيانة السّنوية لسيارتي... دخلت غرفته الخاصّة في الوكالة، فوجدته جالسًا إلى مكتبه بأناقته المعهودة، كأناقة سلوكه الخالية من أي تكلُّف، استقبلني بحفاوة، شَبَكنا سويّةً شبكة من خيوط الحديث العائلي، الاجتماعي والمهني. كانت ملامحه مرتاحة، لأنّه واثق من ميراث العمل المنظّم والمرتّب الذي تركه وراءه... واثق تمامًا بأن تراث تاريخه الصّناعي مصانًا، لن يُفرِّط به أفراد عائلته أبدًا، الذين منحهم الرّاحل سر التعاضد الأُسري، مثلما منحه الباري سرّ الحياة الأبديّة... تعازي الخالصة لأبنائه وخاصّة لزوجته الفاضلة.
[email protected]
أضف تعليق