هي المرّة الأولى تقريباً التي تبادر من خلالها فصائل المقاومة لإطلاق كمّ مؤثر من الصواريخ على مستوطنات غلاف غزة، ما أدى إلى اشتباك واسع يستمر لبضعة أيام. في الأصل فإن السبب الرئيس هو أن إسرائيل تمادت كثيراً في عدوانها وهجماتها على المسجد الأقصى، وبوابات القدس وعلى سكان حيّ الشيخ جرّاح. القدس كفيلة بأن تحرك برمزيتها العالمين الإسلامي والمسيحي فإن كان على المجتمعات العربية أو الإسلامية، أن تخرج لنصرة القدس، فإن الفلسطينيين أولى بذلك، وهكذا هو الحال.
في الواقع وقبل دخول غزة على خط الاشتباك مع الاحتلال، والانتصار للقدس وأهلها، كانت القدس قد استنفرت الضفة بأكملها وكذا، الفلسطينيين في إسرائيل، حيث يعمّ الغضب، وتشتعل المواجهات فيما توسع أدوات الاحتلال من حملاتها القمعية، وتواصل اعتقال العشرات.
الفلسطينيون في القدس انتصروا في واقعة باب العامود، ثم انتصروا إلى حين في واقعة الشيخ جرّاح، حيث أجبروا المحكمة الإسرائيلية العليا على تأجيل جلستها، ولكن اليهود المتدينين، أرادوا استباحة المسجد الأقصى، والقيام بمسيرة الأعلام التي اعتادوا عليها منذ عقود.
ما كانت إسرائيل ستسلم على أي حال بالانتصارات البسيطة التي حققها المقدسيون، وربما كانت ستقع مجزرة لو أن «الحريديم» نجحوا في احتفالهم ووصلوا إلى باحات المسجد الأقصى. هكذا دخلت غزة على الخط الساخن لتعلن فشل السياسات الإسرائيلية، التي أرادت منذ العام 2004 أن تقصي قطاع غزة عن دائرة الصراع، وأن تتخلص من مسؤولياتها العامة كدولة احتلال عن سكانه.
الحسابات كانت دقيقة هذه المرة، وأربكت أجندة الاحتلال وأجندات أخرى، فلقد تم الربط بين غزة والقدس، وبين الصواريخ، وأشكال المقاومة السلمية. يعترف إسرائيليون أنها المرة الأولى منذ قيام إسرائيل التي تتعرض فيها جبهتها الداخلية، ومدنها الرئيسة إلى قصف صاروخي كما الذي تعرضت له على يد المقاومة في غزة.
عجيب أمر غزة، التي لا تشبه هانوي، لا بالجغرافيا ولا بالمساحة ولكنها تأخذ مكانة كهذه. إسرائيل تهرب من قطاع غزة، وتحاصره وتغلق عليه كل المنافذ، بأمل أن يهرب القطاع وأهله نحو الجنوب، ويصرّ أهل غزة على ملاحقة المحتل والإمساك بذيله.
يرتب هذا الواقع على إسرائيل، ضرورة النظر والتعامل مع الشعب الفلسطيني والجغرافيا الفلسطينية على نحو مختلف، وحقوق، وليس كتجمعات منفصلة أو هويات مختلفة، حتى لو ظهر بأن الفلسطينيين منقسمون كما هو الحال. قد يبقى الفلسطينيون مختلفين ومنقسمين كما هو الحال، ولكن بسرعة يمكن استرداد هذه الوحدة، خصوصاً بين صفوف الشعب.
المشهد القائم والظاهر على أرض فلسطين التاريخية، يشير إلى انتفاضة شاملة كل هذه الأرض بعد ذلك والموضوع هو الوطن والوطنية، والشعب والأهداف.
يعاني أهل القدس جرّاء السياسات الإسرائيلية التي تتخذ طابع التطهير العرقي وإزالة كل ما يشير إلى انتماء وهوية المدينة، ويجري التركيز على المسجد الأقصى والرموز الدينية والروحية الأخرى، ويعاني أهل الضفة من سيطرة الاحتلال والمستوطنين على أرضهم وحياتهم، وتحركاتهم وحقوقهم الأساسية.
يعاني أهل غزة، الحصار، والفقر، والبطالة، ووحشية الاحتلال الذي لا يتوقف عن ارتكاب المجازر البشعة بحقهم، كما يعاني الفلسطيني المتمسك بأرضه في الداخل، من التمييز العنصري والتهميش، والإفقار، ونشر الفوضى والعنف بينهم، لكن كل الفلسطينيين تستنفرهم دوافع الحق في الهوية والكرامة والدولة. هذا يعني أن المؤشرات على أرض الواقع، تفيد بأن الصراع قد بدأ يعود إلى أيامه الأولى، باعتباره صراعاً على كل الأرض، والتاريخ، والرواية، ولم يعد حصراً بما احتلته إسرائيل العام 1967. ما يجري من انتفاضة داخل فلسطين التاريخية، قد حرّك العالم كله بما يوحي أن ثمة انتفاضة سياسية دبلوماسية، ترفض السياسات الإسرائيلية في القدس وبحق سكان الشيخ جرّاح.
من الواضح أن تداعيات السلوك الإسرائيلي الهمجي والقمعي لسكان القدس قد أربكت حسابات نتنياهو، وحكومته وكل الكتل السياسية الغارقة في أزمة تتعمق أكثر فأكثر. لم يعد نتنياهو يعرف كيف سيخرج بأقل قدر ممكن من الخسارة، سواء من دائرة القدس، أو من بقية الدوائر، من غزة إلى الضفة إلى المدن والقرى الفلسطينية في الداخل.
نتنياهو لا يرغب، ولا يريد ولا مصلحة له، في أن يجد نفسه أمام خيار شنّ حرب واسعة على قطاع غزة، فهو لا يستطيع تحديد هدفها، كما أنه يخشى من الخسائر البشرية التي سيتعرض لها الجيش والجبهة الداخلية. لذلك فإن المرجّح أن يحاول هو والقادة العسكريون الاستعراضيون، أن يخرجوا من مشهد غزة، دون أن يضطروا للشرح كثيراً بأنهم لم يفرطوا بأمن الإسرائيلي وأنهم يمسكون بالردع، وأصحاب اليد العليا. لذلك صعّدت إسرائيل قصفها لأهداف مدنية، وأبراج سكنية، وأحياناً تكرار القصف على بعض الأهداف، يبدو أن الجيش الإسرائيلي قد أفلس ولم يعد لديه أهداف يستطيع التعامل معها، وبالمقابل، تواصل الفصائل العمل بثقة عالية سواء من حيث الصمود، أو القدرة على الردّ والردع. واضح أن المشهد العام انتصاري وغير مسبوق، ومن شأنه أن يغيّر معادلات، ويفرض أخرى، وأراهن أن إسرائيل تتمنّى أن تعود إلى التهدئة، ولكن بمشهد «مشرّف» يحفظ ماء وجه لا ماء فيه، وهو ما لم ولن تحصل عليه.
[email protected]
أضف تعليق