لماذا من المهمّ أن يُفْتَحَ السّتارُ على دور النِّساء في المُجتمع؟ لا يُمكن لأيِّ مُجتمع أن يتطوّر وأن يتقدّم إذا كان حذوه الأوّل أُحاديّ الخُطى، إذا لا بُدَّ من بناءِ شراكةٍ حَقيقيّة وواقعيّة في ذات الوقت. ومثل هذا الشّراكة المثاليّة تبدأُ حينما يعي المجتمع ويُصعّد لِدَوْرِ نسائِهِ في الجوانب الحياتيّة المُختلفة. تقدّم المجتمع مَنُوطٌ، اليوم دون سواه، بشراكتِهِ الّتي يُمؤسسهُا بين أبنائه وطبقاته المُختلفة دون النّظر في الجنس، العرق والجيل، مع احترام الأذواق المُختلفة سواء أكانت فنّيّة أم دينيّة أو فكريّة أيديولوجيّة.
في ظلّ الواقع السّسيو-اجتماعي تعيش المرأة العربيّة في دولة "إسرائيل" في وَضْعٍ خاصٍّ ومُعقّدٍ، إذ يتّفِقُ مُعْظَمُ البَاحثينَ على أنَّ المحيط المزدوج الّذي تَعِيشُ فيه المرأة العربيّة يُشَكِّلُ بدايات "الصّراع". إنَّ هذا "الصّراع" ناجمٌ عَنْ عِدّةِ تراكماتٍ سَابِقَةٍ، فمن ناحيةٍ هُنّ يعشْنَ في مُجتمعٍ "بطرياركيّ- أبويّ" فيه الرّجل يُرِيدُ أن يُبرِزَ تَسَلُّطَهُ، ومن ناحيةٍ أُخرى، يعشْنَ تَحْتَ إطار دولة إسرائيل؛ فيها الفَوَارق الطّبقيّة تبدو مُتفاوتةً بشكلٍ رهيب. فالفارق بين المرأة اليهوديّة والعربيّة يُندّد عن فجوة صادمة! وأضف إلى ذلك إلى أنَّ الرّجل الّذي يُبدِي تسلّطه عَلَى المرأة هُو مَسْحُوقٌ مِنْ قِبَلِ الدّولة حُضورًا وكيانًا، فَمِنَ الطّبيعيّ أن يكون مردود العُنف على المرأة مُضاعف.
بناءً على ذلك، إذا تساءَلْنَا "ما هُو حَجْمُ الصّراع الّذي تعيشه المرأة العربيّة في إطار دولة إسرائيل؟" نُجِيبُ أنّها تعيش عدّة صراعات؛ صراع مع الرّجل العربيّ الّذي يعيش صراعًا مع رُجولَتِهِ في إطار دولة تُلغي كيانه ووجوده، صراع مع نساء أُخريات تقليديّات يسعين لتحطيم طموحات المرأة العربيّة "الحداثيّة" لكونها تخرج عن منظومة العادات والعُرف، صراع آخر مع الدّولة ومُؤسّساتها الّتي لا ترى بها شريكًا حقيقيًّا بالمرّة، وصراع على الصّعيد الاقتصاديّ مع قلّة مصادر الرّزق المتاحة في سوق العمل، صراع في التّعليم الأكاديميّ مع محدوديّة المجالات والمواضيع الّتي يُمكنها اللَّحاق بها، صراع مع الأبناء الّذين يُحاوِلُون تهميش دَوْرِ أُمهاتهنّ، صراع مع الذّات الّتي لا تَحْظَى بنصيبٍ وافرٍ من العناية على الصّعيد النّفسيّ والرّفاهي. وإذا أَرَدْتُ أن أزيد الطّين بلّةً، سأدخل في نقاش مُطوّل حول مكانة المرأة في السّياستين المحلّيّة والقُطريّة-البرلمانيّة، وهذا موضوع آخر يَطُولُ الحديث عنه.
رُغم كُلّ هذا التّحدّيات المنوطة بحياةِ المرأة العربيّة، إلّا أنّنا نُلاحظ تحرّكات نسائيّة فردانيّة في سوق العمل المُستقل. لذلك أردنا في هذا المقالة أن نُضيءَ على هذا الجانب النّيّر من مُجتمعنا لنُحسّن من مكانته أكثر ونعزّز من حُضُورهِ ونوجّه طلب الـمُستهلكين إليه بهدف الرّفع من شأن هذه المحلّات التّجاريّة ودعمها اقتصاديًّا ثُمّ معنويًّا.
لم ينطلق الحراك النّسائي في سوق العمل المستقل من محض الفراغ. على ما يبدو فإنَّ النّساء العربيّات قد مررن في لحظة "يقظة" أو "نهضة" فكريّة وإيديولوجيّة من أجل استغلال الموقف لصالحهنّ. وإذا نظرنا في عُمق ثُّم تساءلنا ما هي أنواع المحلّات التّجاريّة تلك؟ سنرى بأنَّ النّساء ذات المحلّات التّجاريّة المستقلّة يُجبْنَ على طلب النّساء الأُخريات اللاتي يُشاركهنّ المُجتمع نفسه. وهُنا تكمُنُ لحظة "التّبئير"، فهؤلاء نجحْنَ في إثبات النّظريّة الاقتصاديّة-الاجتماعيّة الّتي تقول بأنَّ نُهوض المُجتمع يبدأ مع اكتفائه بذاته، دون الحاجة إلى التّدخّلات الخارجيّة.
ريم دعّاس- خطيب، شابّة في مُقتبل العُمر تُدير معهدًا للغة الانجليزيّة للأطفال وحانوت "هيلثي كيك" لبيع المُنتجات الصّحّيّة. ترى دعّاس-خطيب بأنَّ النّساء العربيّات اللاتي يعمَلْنَ لساعات طويلة مع أُجُور مُنخفضة يستحققن قسطًا من الرّاحة، لذلك بادرت إلى فتح معهد لتذويت اللّغة الانجليزيّة من جانب وترفيه الأطفال في فترة ما بعد الظّهيرة من جانب آخر، وكُلّ هذا وهي تنظر إلى وضع النّساء الأُخريات في مُجتمعها بعين الرّحمة، إذ أنَّ الدّورات المُختلفة الّتي تمتدّ لأشهر تكون بتكلفة ميسورة. إلى محورٍ آخر، تقول دعّاس-خطيب بأنَّ النّساء بدأن يستيقظْنَ من سُباتهنّ إلى نهضةٍ أُخرى لبناء حياة صحّيّة، إذ ترى بأنَّ هُناك إقبال كبير من قبل النّساء العربيّات إلى المنتجات الصّحّية. في مُجمل القول، يمكن الوصول إلى فكرة مفادها بأنَّ النّساء تعشْنَ لحظة "نهوض" فكريّ-اجتماعيّ-اقتصاديّ-سياسيّ يجب استغلاله من أجل "النّهوض" بالمجتمع كُلّه.
في حيّ الخلّة من مدينة طمرة، شارعٌ تعيش فيه كُبرى المصالح التّجاريّة، إلّا أنَّ ذلك "المخبز" الّذي تُديره امرأة طاعنة في السّنّ، تستوقفني به كُلّما مَرَرْتُ من ذلك الشّارع رائحة خُبزه، وتذكّرتُ رائحة الماضي الّذي يبعث الحياة من جديد. هُو مخبز تعمل فيه 5 نساء-أُمّهات يُدرْنَ حياتهنّ بشكلٍ مُنظّم، فكم بالحريّ بهنّ أن يُقدّمن المخبوزات المُختلفة بما صنعته أيديهنّ، وليست بأيادي الماكينات والآلات الصّناعيّة الصّينيّة والأمريكيّة المُختلفة، إنّما هي الأيادي العربيّة الّتي تعمل بكدّ وجدّ وبتفانٍ واتقان. تلك المقولة العامّيّة الّتي تصدمني كُلّما سمعت حديث أحدهم عن ذلك المخبز "شُغُل معدّلات". وأظنُّ أنّنا بأمسّ الحاجة اليوم إلى تغيير والتّلاعب بنبرة الشّارع من "شغل عرب" (المصطلح الّذي يُقلّل من قيمة ما نقدّمه إلى المُجتمع) إِلى "شُغُل معدّلات".
من طمرة إلى الشّارع الرّئيسيّ في مدينة عرّابة الجليليّة، نهضة جديدة تحت اسم "سليمة"؛ اسم لمطعم ولصاحبته، تُديره مُنذ حوالي عشرات السّنين، بادرت لهذه الفكرة بعد النّهضة الّتي تملّكت عقلها. وعندما نتحدّث عن "سليمة" فإنّنا لا نقصد اسم السّيّدة ولا اسم المطعم فحسب، بل نقصد اسمًا اجتماعيًّا عريقًا، فهذا الاسم مجدولٌ بأعمال خيريّة للمُجتمع المُحيط به. وإن كانت السّيّدة "سليمة" لا تكشف عن بُذُور الخير الّتي فيها، فكان لا بُدّ لنا إلّا أن نُثني على ما تُقدّمه لأبناء مُجتمعها المُحيط بها، من اهتمام للجيل الشّابّ ودعمه مادّيًّا ومعنويًّا لمُتابعة سير التّعليم والالتحاق الأكاديميّ، فما وصلني عن هذه المرأة يدلّ على مدى عظمة ما تُقدّمه، فكيف لنا أن نُهمّش هذا العمل الدّؤوب والسّامي الّذي يقطنُ أحْيَاءَ شَوَارِعنا وَعَلَى ضِفَافِهَ.
ما هذه إلّا نُبذة صغيرة عن كُلّ تلك المبادرات النّسائيّة في سوق العمل المحلّي. هُناك وابلٌ من النّجاحات، والأفكار الّتي تسعى النّساء لتذويتها في المُجتمع مُنذ طليعة اليقظة الّتي ستسفرُ عمّا قريب عن نهضة اجتماعيّة كُبرى. وفي النّهاية، لا بُدّ أن نعي تمامًا أساس النّهضة الّتي يجب أن نتطعّم بها من أجل بناء مُجتمع مُتعاضد مُنذُ اليوم وهذه اللحظة. لا سيّما مع كُلّ ما يعيشه به مُجتمعنا العربيّ الآن! أنا أُؤمن بأنَّ بعد الخراب يأتي النّظام، وبعد الانهيار يُبنا العمار، وبعد التّخلّف والهزيمة والفشل والانحطاط تُوقظ النّهضة.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]