عدم تمكّننا من التّعبير عن الرّأي بشكل صريح والخوف من النّقد، يضعفنا كأفراد وكمجتمع ويحول دون إِسماع صوتٍ أو حتّى حشرجة، ويُلزمنا الغياب في بديهيات مجتمعيّة التي تقع تحت تعريفات المقبولات والمجاملات، للحفاظ على سَيرورة مجتمعيّة تقليديّة ظاهريّا وقهر أيّ فكر مغاير آخر. الرّقابة الذاتيّة والمجتمعيّة التي تعتمد النّقد الموضوعيّ تكاد تكون معدومة لدينا، بل نغرق بما يمليه علينا الإيجو ونرفض قبول النّقد الصّريح إن كان شخصيّا، أو فكريّا ثقافيّا أو سياسيّا مجتمعيّا. من تجرّأ وانتقد، "فهو ليس منّا" ونحاربه إمّا جهارة وإمّا من خلال الإقصاء والتّهميش. الأمر الذي يردع النّاس من أيّ محاولة للنّقد، بهدف البقاء في دائرة المقبوليّة أو تحت كَنَف القبيلة وعدم الدّخول القسريّ أو الطّوعي إلى عزلة شخصيّة ومجتمعيّة. نتعلّم المسايرة التي تفي بشروط البقاء والاستفادة ضمن الدّائرة الضّيقة والآمنة وفق قاعدة استفهاميّة "بدّك توكل عنب أو تقاتل النّاطور؟!" فلا ننتقد، حتّى وإن كانت لدينا الغيرة والمسؤوليّة والرّغبة في العمل والتّطوير، فلم تعد لدينا ثقة في إمكانيّة التّغيير، ولا ننتقد أيضا بسبب الخوف من النّبذ والإقصاء أو الاعتداء الكلاميّ والجسديّ والنفسيّ أو حتى الاعتداء على الأملاك الشّخصيّة. بالتّالي نمتنع ونضطر إمّا الانسحاب من محاولة التّغيير في الدّائرة المجتمعيّة، أو التّعاطي مع الحالة كأمر واقع والتّسليم بعدم الاكتراث لنبقى في مجتمع قليل الامكانيّات يدور في دوائرَ مفرغة ومهمَلٍ من قِبلنا ومن قِبل السُّلطة والدّولة.
يلاقي النّقد الاستحسان ويُعتبر بنّاءً في حالة واحدة يهيمن بها التّبجيل و"مسح الجوخ" فهو مقبول كليًّا ليصبح شرعيًّا حتّى وإن كان فيه الكثير من الزّيف، فنتعلّم النّفاق الثّقافي والفكريّ والسّياسيّ والدّيني ما يؤدي الى التكلّس المجتمعيّ، ليعتمد النّقد على علاقة شخصيّة ومصلحة ومعايير جندريّة ودينيّة وجنسيّة وفئويّة التي تُغيّب الموضوعيّة والمهنيّة. قد يعود ذلك الى تأثير تنشئة الفرد في البيت وفي المؤسّسة الاجتماعيّة التربويّة والثّقافيّة، التي لا تتقبّل الخطأ وتزدريه ولا تتسامح معه كرافعة للتّعلم وتعتمد حتميّة الصّواب في رأينا وسلوكيّاتنا. لا مكان للنّقد، فنحن الأفضل ونعرف كلّ شيء! إن حدث وأخطأنا، وفق مقاييس لا تعنينا، فهذا حتمًا "وقع سهوًا" أو بسبب نزوة غضب "شرعيّة" أو غالبا ما يعود الأمر لسبب خارجيّ غير متعلّق بنا، فنضع الّلوم على إحدى "الشّماعات" ونتّهمها بأنّها السّبب بمشاكلنا على أنواعها الشخصيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، لنحمي الأنا الشّخصي والمجتمعيّ ونتجرّد من المسؤوليّة، فلا نحاسب أنفسنا ولا ننتقدها ولا نسعى إلى تطويرها. إن تجرّأ أحدٌ وانتقد بشكل موضوعيّ فقد يحترمه قلّة من النّاس لمهنيّته وأخلاقيّاته، لكن سيتحفّظ منه الأغلبيّة دون حواره أو نقاشه ويسعون إلى تغييبه، خوفًا من أن يشكّل عائقًا في مدارات المقبوليّة الرّتيبة، ومن ثمّ يُتّهم بالفوقيّة أو بالعمالة أو بالتّعصب أو بنكران الجميل أو بأيّ شيء يزيح عنهم المسؤوليّة ومراجعة الذّات.
حين انتقدتُ العامل والموظّف سخرا مني لأنني أهذي بالمثاليّات وبالالتزام بأخلاقيّات العمل، وحين انتقدتُ المعلّم نعتني بألفاظ غير تربويّة، وحين انتقدتُ الطّالب شتمني، وحين انتقدتُ المدير مهنيّا أقالني من العمل، وحين انتقدتُ التّاجر قال "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"، وحين انتقدتُ حزبا سياسيّا أفلتت جوقات التّخوين وحناجر الوطنيّة الزّائفة وصرتُ خائنًا، وحين انتقدتُ "شخصيّة" مجتمع أو شخصيّة أكاديميّة رُفعَت العيون وهدّدني من يشغل منصب محامي الله على الأرض بكلّ ممارسات العنف، وحين انتقدتُ التّفكير الدّيني المتعنّت وممارسات رفض الآخر صرتُ ملحدًا وكافرًا وطوردت من قِبل "أتقياء" الأرض، وحين انتقدتُ أداء البلديّة والسّلطة لتقاعسها في أدنى مهامها قالوا "أنت غير موضوعيّ" لأنك "مش من جماعتنا" "مش عاجبك انقلع لبلد ثاني"، وحين انتقدتُ أداء المدارس قالوا "أنت لا تفهم، فَلا بديل لنا، وين نروح بولادنا؟" وألبسوني مقولة "بوكل من الصّحن وببزق فيه" وحين انتقدتُ نهج المدارس التي تديرها السّلطة وفق أجندتها وتعييناتها التي تتناسب معها قالوا عني "غريب عن هذه البيئة" "معتوه وفوقيّ" في آن واحد، وحين انتقدتُ المجتمع "زفّني" النّاس "أنت ليس منّا" و"أنت عنصريّ تنظّر"، وحين انتقدتُ روايتي الحاضرة والتاريخيّة لشعبي من أجل المصداقيّة التاريخيّة قالوا "أنت تهذي!" "أنت دجّال!" أو "كفانا جلدا للذّات"! إن لم تكن جاهزيّة لدينا لتقبّل النّقد والتّقييم فلن تكون جاهزيّة للتّعلم أو التّغيير أو التّقدم، وبالتالي نبقى في دوائر هشّة ومتهالكة على صعيد الفرد والمجتمع.
في ظلّ هذا الرّفض في مجتمع قامع للتّفكير والحريّات، قد يكون الابتعاد عنه فكريًّا أو حتّى جغرافيًّا هو الملاذ، وهذا ما نعايشه من نزوح متواصل عن هذا المجتمع، ليلجأ الفرد الى مدارات يحترق فيها بخورا ويرتفع نحو هيكل ذاته واحترام فكره وشخصه، ويعيش بكرامة في عزلة قسريّة أو طوعيّة دون الانشغال بشوائبَ فكريّة وحياتيّة. أحترم رأي من لا يوافقني هذا المنحى، لكن أحترم أيضا من ينسجم مع هذا الطَّرح ويقف بشكل صريح دون تردّد أمام مجتمع لا يصغي ولا يرى ولا يتكلّم، ويفرض حضوره بجرأة ويؤمن بنفسه وبمشروعه رغم الاقصاء، ويسير نحو نهضة فكر وتغيير منشود كضرورة ذاتيّة ومجتمعيّة ملحّة آنيّة!
[email protected]
أضف تعليق