بعد أن تشكلت جامعة الدول العربية، العام 1945، وبعد ظهور حركة التحرر العربي، ولأن الجامعة لم تحقق طموح الشعوب العربية في الوحدة، ظهر العديد من محاولات الوحدة بين دولتين أو أكثر من الدول العربية، فظهرت أولاً الجمهورية العربية المتحدة، كاتحاد بين دولتي مصر وسورية العام 1958، واستمرت ثلاث سنوات فقط، حيث أجهضت العام 1961، بعد انقلاب سوري عسكري وضع حداً لها، ثم بعد قيام ثورة الفاتح الليبية، ظهر أكثر من محاولة لتوحيد ثلاث دول، هي: مصر وليبيا والسودان، ثم مصر وسورية وليبيا، لكن لم تدم هذه المحاولات كثيراً، كل هذا كان يحدث في المركز الجغرافي العربي، أي الدول التي تتوسط العالم العربي، حيث كانت مصر بما تمثله من ثقل بشري ومن موقع جغرافي وكذلك من خيار سياسي تحرري هي الطرف الرئيس في كل تلك المحاولات الوحدوية.
أما على الأطراف، إن كان في الجناح الشرقي أو الغربي من الوطن العربي، فقد قامت ظاهرتان كانتا أكثر استقراراً من محاولات الوحدة المصرية مع كل من سورية، ليبيا، والسودان، كانت الأولى في المشرق العربي حيث كانت أكثر جدية من كل محاولات الوحدة العربية الأخرى، ذلك أنها لم تكن أكثر من نسخة مصغرة عن جامعة الدول العربية، ولم تكن وحدة إندماجية ولا وحدة لا فدرالية ولا كونفدرالية، ونقصد بها مجلس التعاون الخليجي، الذي من اسمه يعني أنه إطار للتعاضد بين دوله الأعضاء، مثل أي إطار جامع إقليمي أو دولي، فيما كانت الظاهرة الأخرى، تخص دول المغرب العربي، حيث نشأ الاتحاد المغاربي من دول: ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب وموريتانيا، وكان أيضا مجرد إطار تضامني غير وحدوي، لا يشبه حتى الاتحاد الأوروبي مثلاً.
وما بينهما نشأ الاتحاد العربي لفترة وجيزة، وضم دول العراق، الأردن، مصر واليمن، وذلك حين ظهر كل من مجلس التعاون والاتحاد المغاربي كإطارين يمثلان محورين سياسيين، دولهما أعضاء في الجامعة العربية، ما دفع دول الاتحاد العربي لتشكيل المحور الخاص بها، حتى تقوي من دورها ونفوذها في الجامعة، وبذلك كانت خمس عشرة دولة من أصل اثنتين وعشرين دولة عربية، ضمن ثلاثة محاور عربية، خارج إطار الجامعة، رغم أن دولها كلها بقيت أعضاء في الجامعة العربية.
الخلافات بين الدول الأعضاء، عصفت وإن بنسب متفاوتة بتلك المحاور العربية، فاحتلال العراق للكويت، بدد الاتحاد العربي، فيما ظلت قضية الصحراء المغربية محل خلاف مغربي جزائري، وأخيراً فإن مجلس التعاون الخليجي بات بحكم المنتهي بعد أن قاطعت ثلاث دول من أصل ست مكونة له، هي: السعودية والإمارات والبحرين دولة قطر، فيما كانت الكويت وعمان محايدتين بينهما، ولم تنجح محاولاتهما لرأب الصدع، والحفاظ على المجلس من التآكل.
مختصر القول، إن وجود الجامعة العربية، لم يمنع بل لم يقنع العرب، لا شعوباً ولا حكاماً، بعدم التطلع للوحدة العربية الشاملة أو الجزئية، بين الأنظمة وبين الشعوب، لأنها ببساطة لا تعتبر لا في نظر الشعوب ولا الحكام، نظاماً وحدوياً، ولا حتى مشروع نظام وحدوي، بل تمثل الحد الأدنى المعنوي من التوافق على المواقف السياسية العامة، وحين ظهرت الظروف التي تتطلب مواقف سياسية واضحة وصريحة تتعلق بخلافات بين الدول، ظهر عجز الجامعة، خاصة أن قرارتها كلها تتخذ بالإجماع، وليس بالأغلبية النسبية، ولا تعتبر ملزمة كذلك .
اليوم بعد أن ضربت الإمارات والبحرين عرض الحائط بالموقف العربي الجماعي، المستند للمبادرة العربية حول التطبيع مع إسرائيل، وعجز الجامعة حتى عن إدانة تلك الخطوة، نتوقع أن تظهر الحاجة الملحة لتشكيل المحاور الإقليمية، ليس فقط داخل البيت العربي، أي بين مجموعات من الدول التي ترتبط بعامل التجاور الجغرافي أو التشابه في طبيعة الأنظمة الحاكمة، كما كان من قبل، بل على أساس المواقف السياسية المتباينة، ومنها الموقف من إسرائيل والتطبيع.
هنا وفي محاولة الإجابة عن السؤال المتعلق بالرد الفلسطيني على عجز جامعة الدول العربية عن الرد على التطبيع الإماراتي والبحريني، نقول، إنه من الصعب جداً، بل من الغباء السياسي انسحاب دولة فلسطين من الجامعة، لكن يمكن لفلسطين الرد، بالانضمام للمحاور المضادة لدول التطبيع، وهناك دول الجزائر وتونس وسورية، التي يمكن تشكيل إطار وحدوي معها، في الوقت الذي يمكن فيه اتباع سياسة سحب السفراء من دول التطبيع، الإمارات والبحرين وأي دولة لاحقاً تقدم على نفس الخطوة.
كذلك اتباع سياسة أعداء العدو أصدقاء، فمقابل تحالف البحرين والإمارات مع إسرائيل، يمكن لفلسطين أن تعلن اتفاق تعاون وحماية مع إيران، ومقابل تحالف إسرائيل مع أميركا، يمكن لفلسطين أن تعقد اتفاقات تحالف إستراتيجي مع الصين وروسيا.
إضافة إلى الرد الشعبي، لا بد لدولة فلسطين، أن تقول: نحن لسنا ملزمين بتقديم العرب مجتمعين على غيرهم من الأشقاء المسلمين، ولا الأصدقاء والحلفاء الدوليين، ذلك أن الشقيق والأخ والصديق، يظهر التقارب معه بناء على موقفه، وما تفعله فلسطين ما هو إلا رد، فهي لا تبادر إلى إضعاف صلة قربى الدم، لكن ما دام الشقيق يرى مصلحة نفسه، فمن حق فلسطين أن ترد بالمثل.
هذا على الجانب السياسي، أما في الميدان فإن الدفع بالوحدة الشعبية والمقاومة والمواجهة الشعبية هو حق فلسطيني خالص، وبتقديرنا فإن سياسة المحاور قد لا تتوقف عند حدود الجانب الفلسطيني وحتى العربي، فها هي إيران تسعى للتقارب الجدي مع تركيا، للرد على التحالف الخليجي/الإسرائيلي الأمني، وحتى داخل إسرائيل هناك من يقف ضد إغلاق حل الدولتين، وفي أميركا هناك تصاعد لحالة الرفض للإدارة الصهيونية للبيت الأبيض، وعلى صعيد العالم، ما زالت إرهاصة النظام العالمي الرافض للقطبية الواحدة الوحيدة متتابعة، وليس بعيداً اليوم الذي تظهر فيه تحالفات دولية اقتصادية وحتى سياسية واضحة وصريحة، تجد فيها أميركا وإسرائيل في جانب والآخرين في جانب أو حتى جوانب مواجهة.
لقد فتح التطرف السياسي الإماراتي/البحريني تجاه إسرائيل، والخروج عن المزاج الشعبي العربي، والموقف الرسمي العربي، الباب على مصراعيه لاستفزاز الآخرين، شعوباً ودولاً إقليمية أولاً ودولية ثانياً، وحتى في أميركا وإسرائيل، ما يعني أن إسرائيل التي حصلت على ثمرة تخريب العالم العربي منذ العام 2011، لن تقوى على هضمها سريعاً، بل إن ترامبياهو، ثنائي الشر العالمي، اللذين قد يساعدهما التطبيع المجاني على البقاء في الحكم، إلا أنه بالمقابل سيفتح على بلديهما بوابة العزلة الشعبية الإقليمية والدولية.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]