التاريخ يُعيد نفسه، ربما ليس بالتفاصيل الدقيقة نفسها، وإنما بالمفهوم الجيوسياسي العام. فقبل مائة عام، ومع بدء تنفيذ اتفاقية «سايكس بيكو» وتقسيم منطقة سورية والهلال الخصيب بين الفرنسيين والبريطانيين، طغت مصلحة ما أطلق عليه لاحقاً «الدولة الوطنية» على مفاهيم سابقة منها الدولة العربية الجامعة التي طمح الشريف حسين إلى تحقيقها. ولكن كانت النتيجة تقسيم المنطقة إلى دويلات وخراب ما زلنا نحصد نتاجه.
قبل قرن، أي في العام 1920، اندلعت ثورة في العراق ضد الاستعمار البريطاني. على الرغم من أن كثيراً من مشايخ العراق وقفوا ضدها لأنهم كانوا محسوبين على الاستعمار ويتلقون المساعدات المالية ويستمدون السلطة العشائرية منه. لكن الشعار الذي رفع حينها هو استقلال العراق. وليس الدولة العربية، وهي محاولة للنأي بالنفس عن المحيط الملتهب.
في العام نفسه، وجدت سورية نفسها في مواجهة مع الاستعمار الفرنسي الذي هدف إلى تقسيمها لدويلات. وعلى الرغم من محاولة الملك فيصل التأقلم مع المطالب الفرنسية لتجنيب الشعب السوري ما أسماه ويلات الحرب غير المتكافئة.. فإن الفرنسيين قسموا سورية، بأن سلخوا عنها الإقليم اللبناني، حيث أعلن الجنرال الفرنسي غورو عن قيام دولة لبنان وعاصمتها بيروت ودمج العلم اللبناني والفرنسي، ما أثار غضب المسلمين الذين رضخوا لاحقاً للأمر الواقع. وكان إقليم لبنان طلب قبل ذلك مساعدة الأوروبيين في الاستقلال عن سورية. الطلب قدمه البطريرك الماروني الحويك بعد مؤتمر فرساي في العام 1919.
أما بالنسبة للأردن، فقد حاولت فرنسا بسط نفوذها عليه، ولكن وقوف البريطانيين أمامهم حال دون ذلك، وبعدها طمأن البريطانيون قادة الأردن إلى أنه لن يتم شمل الأردن بوعد بلفور.
وهكذا وجد الفلسطينيون فجأة أنفسهم وحيدين ومحاصرين، والأخطر هو قبول قيادات عربية في ذلك الوقت سراً بانسلاخ فلسطين عن باقي أراضي سورية الطبيعية والهلال الخصيب. حيث كانت جزءاً أساسياً من هذه المنطقة في ظل الخلافة العثمانية.
القيادات الفلسطينية الوطنية استشعرت الخطر الداهم على الرغم من تنافرها، فبدأت التحرك باتجاهين: الأول، تحشيد الشعب الفلسطيني والتحذير من ضياع فلسطين، في ظل وعد بلفور وتسريع الهجرة اليهودية بشكل غير مسبوق وتمكين الحركة الصهيونية. والاتجاه الثاني، محاولة طلب المعونة من الأقطار العربية التي أصبحت لا تملك القرار، بل إن وجودها أصبح مرتبطاً بمواقف المستعمر.
أمام هذا الواقع، أجبر الفلسطينيون على إعلان ثورتهم التي امتدت من بدايات العام 1920 وحتى يومنا هذا بأشكال مختلفة، ولكن ما خفف من آثار نكبات الشعب الفلسطيني المتتالية هو الشعور بأن هناك عمقاً عربياً جماهيرياً. هذا العمق هو الذي أعطى مجالاً للمناورة وإن كانت غير مجدية في المحطات الأساسية للقضية الفلسطينية.
النظام العربي الرسمي، ظاهرياً، كان مع رغبات الجماهير، ولكن كشف لنا التاريخ عن أن كل الأنظمة الرسمية أقامت بشكل أو بآخر علاقات مع القيادات الصهيونية والكيان الإسرائيلي منذ نشأته في العام 1948، وتطورت إلى أن تصل إلى حد التعاون الاستراتيجي كما في العام 2020، أي بعد قرن كامل.
اليوم، التاريخ يعيد نفسه أيضاً، فالشعب الفلسطيني يجد نفسه وحيداً، والعمق الذي كان يعتمد عليه أصبح مخلخلاً، أقرب إلى السقوط، ولهذا أصبح ممر الوحدة الوطنية إجبارياً للانبعاث من الرماد. دون ذلك ستحل نهاية القضية الوطنية أو تموت لعقود قادمة.
القيادات الفلسطينية وعلى الرغم من المآخذ الكثيرة عليها وعلى الرغم من أن بعض الفصائل فوجئنا أول من أمس بأنها لا تزال على قيد الحياة، وأن المواطن شعر وكأنها سقطت من فضاء الغياب، فإن اجتماعها جاء في لحظة حاسمة وكان أكثر من ضروري.
اجتماع الأمناء العامين للفصائل، أشعرنا أيضاً بأننا قادرون على لملمة جراحنا. وحديثهم ساعات طويلة، أشعرنا بأننا أمام لحظة ولادة تاريخية تخرجنا من المأزق الخطير الذي وصلنا إليه، خاصة أن تصرفاتنا الحمقاء وانقسامنا قدمت مبرراً للآخرين يمكنهم من أن يديروا لنا الظهر، بل وأكثر من ذلك.
ما طرح في اجتماع الأمناء العامين ابتداء من الدعوة لحوار وطني شامل وإقرار آليات واقعية لإنهاء الانقسام والمصالحة، وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية على قاعدة الشراكة. والتأكيد على القرار الوطني الفلسطيني المستقل، ورفض صفقة القرن وكل المخططات التصفوية والتأكيد على المقاومة الشعبية وتشكيل قيادة موحدة لها، والصمود أمام الضغط السياسي والمالي الذي تقوده أميركا هي قضايا مدعومة بشكل كامل من الشعب الفلسطيني، شريطة أن يصدق هؤلاء القادة في تعهداتهم، وأن ينفذوا ما طرحوه في كلماتهم، لأننا سمعنا ونسمع حلو الكلام منذ 15 عاماً، ولكنه جعجعة كثيرة كغثاء السيل.
مائة عام مرت وما أشبه اليوم بالبارحة. ففي العام 1920 شعرنا بأن الجميع تخلى عنّا.. فانتفضنا وصمدنا على أرضنا. واليوم في العام 2020 بتنا متأكدين أننا نجابه الأحداث نفسها مع أن الوجوه والمسميات تغيرت، فبدل: سايكس وبيكو وكليمنصو وغورو واللنبي، هناك ترامب وكوشنير وفريدمان. تغيرت الأسماء لكن الأفعال باتت أخطر، فهل تتعلم قياداتنا من التاريخ؟!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]