قُبيل منتصف القرن السّابع، توفّي شاعر عربيّ رقيق الطّبع، غزير المعاني، عذب العبارة، هو الشّاعر خُوَيلد بن خالد، الذي يُعرف بأبي ذُؤيب الهُذليّ، نسبةً إلى قبيلته هُذَيل. كان أبو ذؤيب عائدًا عام 649 من المغرب الأدنى إلى المدينة، ولكنّ يد المنون عاجلته، فأخذ يقول شيئًا من شعره وهو يجود بنفسه، ثمّ قضى نحبه ودُفن في طريق مصر، كما تذكر بعض المصادر.
عُرف هذا الشّاعر المخضرم الذي أدرك الإسلام ببراعة تصرّفه في الفنون الشّعريّة المختلفة، كما عُرف بأشعاره الغزليّة التي تنضح صدقًا وعذوبة ورقّة، كقوله في مطلع قصيدة تُروى له: يَا بَيْتَ دَهْمَاءَ الَّذِي أَتَجَنَّبُ / ذَهَبَ الشَّبَابُ وَحُبُّهَا لَا يَذْهَبُ. وقد أفاضت الباحثة الألمانيّة ريناته يعقوبي في دراسة الأبعاد التّجديديّة في أشعاره، فأثبتت أنّ أبا ذؤيب الهذليّ هو أوّل من طوّر ونمّى فنّ الغزل الذي سطع نجمه في العصر الأمويّ وما بعده. فالشّاعر ينأى كثيرًا عن المعاني التّقليديّة المعهودة، ويتلمّس نهجًا جديدًا في التّعبير عن عواطفه ولواعجه، وفي تصوير شخصيّة المحبوبة، يدفعه التّفاؤل والأمل المتوقّد للقائها، كقوله: جَمَالَكَ أَيُّهَا القَلْبُ القَرِيحُ / سَتَلْقَى مَنْ تُحِبُّ فَتَسْتَرِيحُ (جَمَالَكَ، أي تجمَّلْ أيّها القلب الجريح)؛ وقوله: أَلَا زَعَمَتْ أَسْمَاءُ أَنْ لَا أُحِبُّهَا / فَقُلْتُ بَلَى لَوْلَا يُنَازِعُنِي شُغْلِي.
ولكنّ شهرة أبي ذؤيب الهذليّ قد ملأت الخافقَيْن في الأدب العربيّ بقصيدته العينيّة الغرّاء، التي يرثي فيها خمسة من بنيه، وقد تخرّمهم الموت حين أصيبوا بالطّاعون في عام واحد بعد هجرتهم إلى مصر. وتذهب بعض الدّراسات إلى أنّه الطّاعون الذي وقع في عمواس في العامين 638-639، ثمّ انتشر في بلاد الشّام وامتدّ إلى مصر.
يقول أبو ذؤيب في مطلع هذه القصيدة التي تزيد على السّتين بيتًا، وتصوّر فناء الإنسان وعجزه عن درء الموت المحتوم: "أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ / وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ (أي والدّهر لا يروم إرضائي ولا يرجع عمّا أنفذه من أمر حزني الشّديد)؛ ثمّ يجيب الشّاعر أُمَيْمةَ التي تسأله عن همّه وشحوبه قائلًا: فَأَجَبْتُهَا أَنْ مَا لِجِسْمِيَ أَنَّهُ / أَوْدَى بَنِيَّ مِنَ البِلَادِ وَوَدَّعُوا؛ أَوْدَى بَنِيَّ وَأَعْقَبُونِي حَسْرَةً / بَعْدَ الرُّقَادِ وَعَبْرَةً لَا تُقْلِعُ؛ ثمّ يقول بيته المشهور: وَإِذَا المَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا / أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ. ومن الملحوظ في هذه القصيدة أنّ الشّاعر يسوق بعد ذكر أبنائه ثلاثة مشاهد عن الموت المحدق المتربّص في كلّ مكان، ويصف في ختام القصيدة مصرع الفارس البطل الشّجاع، الذي تدجّج في السّلاح، ومضى ينازل فارسًا مقدامًا آخر، يروم كلٌّ منهما مقتل خصمه بطعنة نجلاء. يقول: فَتَنَازَلَا وَتَوَاقَفَتْ خَيْلَاهُمَا / وَكِلَاهُمَا بَطَلُ اللِّقَاءِ مُخَدَّعُ؛ يَتَنَاهَبَانِ المَجْدَ كُلٌّ وَاثِقٌ / بِبَلَائِهِ وَاليَوْمُ يَوْمٌ أَشْنَعُ؛ وَكِلَاهُمَا قَدْ عَاشَ عِيشَةَ مَاجِدٍ / وَجَنَى العَلَاءَ لَوَ ٱنَّ شَيْئًا يَنْفَعُ.
إنّ هذه الدّرّة الوضّاءة من درر الأدب العربيّ لها قيمة خاصّة في زمن الوباء الذي تكابده البشريّة في أيّامنا. فالشّاعر يتجرّع الأسى على فقد أبنائه، ولكنّه مع ذلك يعبّر تعبيرًا إنسانيًّا ساميًا، يحمل في ثناياه نظرة الإنسان إلى أخيه الإنسان بحضرة الموت، مترفّعًا عن قوميّته، ولغته، ودينه، ومذهبه، حين تطرق غوائل الدّهر أبوابَ النّاس جميعًا، فيصبحون سواسية في هذا الخطب العصيب. ولا ريب أنّ موت أبنائه الخمسة، بطاعون عظيم كان يفتك حينئذ بالنّاس، قد دفعه إلى التّحوّل من التّعبير الخاصّ إلى التّعبير العامّ عن ألم الإنسان وأسى البشريّة حين تغشاها الجوائح، وتنتابها الكوارث، فيغدو الفقد واحدًا، والألم واحدًا، والإنسان واحدًا. ولذلك، حلّقت هذه المرثية في آفاق الأدب العربيّ، تستوقف نظر المثقّف العربيّ قديمًا وحديثًا، وتستميل المستشرقين الذين انبروا لترجمتها، لما فيها من تصوير بليغ يرقى إلى التّجربة الإنسانيّة الواحدة، حتّى أخذ النّقّاد القدماء يدوّنونها في كتبهم، ومضى الرّواة ينشدونها ويعزّون بها كلّ مفجوع، فضلًا عن أنّ بعض الأبيات قد نالت حظّها من التّلحين والغناء في صدر الدّولة العبّاسيّة.
ولا تقتصر هذه النّظرة الرّاقية الصّادقة إلى الإنسان على مرثية أبي ذؤيب فحسب، فإنّنا نجد ما يشاكلها في غزله حين يقول في محبوبته: "وَأَرَى العَدُوَّ يُحِبُّكُمْ فَأُحِبُّهُ / إِنْ كَانَ يُنْسَبُ مِنْكِ أَوْ لَا يُنْسَبُ؛ لقد بلغ من حبّه لها أنّه يُحبّ العدوّ الذي يحبّ قومها، سواء أكان من ذويها أم من غيرهم، وفي هذا دليل على أنّ حبّه قد تسامى على الحواجز الاجتماعيّة والنّزاعات المستعرة المعهودة في المجتمع القبليّ، فذوّب الحبّ المتأجّج هذه الفوارق وصرفه عنها، كما صرفته الفاجعة عن التّفرّد ببكاء أبنائه إلى التّعبير عن الألم الكلّيّ العامّ للإنسان عند وقوع الجائحة. ولعلّ أجمل ما يُردّد صدى هذه النّظرة السّامية قول الشّاعر الأندلسيّ أميّة بن عبد العزيز: إِذَا كَانَ أَصْلِي مِنْ تُرَابٍ فَكُلُّهَا / بِلَادِي وَكُلُّ العَالَمِينَ أَقَارِبِي.
وكما وجد أبو ذؤيب الهذليّ جميع النّاس أقاربه في رزيّته، فكان رثاؤه البديع في حِلٍّ من الزّمان والمكان، لسان حال الإنسان في هذا العالم، كذلك نجد في أيّامنا هذه أنّ الوباء قد أطلق الوشائج الأصيلة بين الإنسان وأخيه الإنسان، فاستضاءت البشريّة بكلّ سراج وهّاج وكوكب سطّاع، ممّن يجوبون حومات النّزال يطبّبون المرضى ويقارعون المحنة بترس الإيمان وحربة الرّجاء، وممّن يتبادرون إلى عون المحتاجين بسخاء الدِّيَم الهطلاء، ويشحذون عزائم النّاس بالأمل والتّفاؤل والاستبشار. وإذا كنّا ننير عقولنا بالكتب الحافلة بالتّجارب الإنسانيّة عبر التّاريخ، فإنّ كتاب البشريّة الذي نقرأه في هذه الجائحة يحمل أبلغ المواعظ في التّعاليم الإنسانيّة، حين يبدّد الوباء أوبئة كثيرة من العنصريّة والظّلم والاستبداد، ليكون زمن الشّقاء عبرة عظيمة لزمن الرّخاء.
[email protected]
أضف تعليق