في باب الحديث عن آفة العنف والجريمة في بلداتنا العربية والتي أصبحت جرحا نازفا يضرب جسد مجتمعنا، أريد ان أسلط الضوء بشكل خاص على تخطيط بلداتنا العربية، وللحق على انعدام التخطيط فيها زمنا طويلا، والعلاقة بينه وبين العنف والجريمة فيها. ورب قارىء يتساءل بشكل استنكاريّ ما لتخطيط البلدات ورجل يقوم باطلاق النار على شخص آخر ويرديه قتيلا مدفوعا لهذا العمل الاجرامي بمصلحة ماديّة او انتقاميّة؟ وقد نوافق هذا الطرح اذ لم نمعن النظر في وظائف التخطيط العمراني للبلدات والمدن. ذلك ان تخطيط البلدة لا يقتصر على الجانب الهندسيّ للاراضي والعمارات والبيوت والشوارع والمدارس والساحات وغيرها، بل ان للتخطيط وظائف جوهرية أخرى تمس بناء المجتمعات وأسلوب حياتها ونظام العلاقات بين افرادها وبين الفرد والمجتمع والدولة. للتخطيط العمرانيّ جوانب اقتصادية واجتماعية وأمنيةّ وحقوقيةّ. قد يعزز التخطيط التلاحم والتماسك بين ابناء المجتمع وقد يقوي الفروق والحواجز بينهم من جهة اخرى; قد يعزز التخطيط المستوى الاقتصادي لمجتمع او فئة معينة منه وهو قد يفقرها ويضعفها من جهة أخرى; قد يعزز التخطيط العمراني أمن البلدة وسلامة أهلها وهو قد يفقدها من جهة اخرى هذا الحق الاساسيّ ويجعلها "ساحة حرب" للقتل والدمار وهو ما يحصل اليوم للأسف في بلداتنا العربية.
ويوم كان التخطيط عملية اجتماعية طويلة الأمد ولا تقاس بحالة عينية او بمحطة زمنية واحدة او بموقع معين، بل هو سيرورة متراكمة تتكون وتتبلور على مدار سنوات وتجارب عديدة، أجد بلا شك علاقة وطيدة بين حال بلداتنا العربية من جهة التنظيم والبناء وبين آفة العنف والجريمة التي تضرب فيها. في نظري ان انعدام التخطيط في اغلب البلدات العربية، وهو حال استمرت عشرات السنين، أتى بثماره الفاسدة على مجتمعنا العربي في المجال الثقافي والعمراني والاقتصادي وغيرها من الامور الاساسية التي تشكل اي مجتمع متقدم وسليم، ولتكون الجريمة ثمرة "طبيعية" لحال البلدات العربية في مجال التنظيم والبناء. أسند رأيي هذا على مجموعة من الجوانب التي تمثل العلاقة المذكورة بين انعدام التخطيط والجريمة في بلداتنا العربية، واذكر منها من قبيل الايجاز الامور التالية:
أولا، الشعور بان البلدات العربية "مغلقة". حينما لم تقم الدولة بتأمين المخططات الهيكلية الضرورية لتطوير وعمران البلدات العربية، وهو تقصير مقصود انتهجته الدولة تجاه المجتمع العربي اعواما طويلة، تطورت البلدات العربية بنفسها على اراضي المواطنين الخاصة دون تنظيم ودون تخطيط شامل ودون نظرة مستقبلية بعيدة للمصالح الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للبلدة. اصبحت البلدات العربية بفضل ذلك اشبه بمناطق مغلقة ومنعزلة تفتقد الى الاتصال الكامل والدائم مع حيزها ومنطقتها واقليمها. ان غياب الدولة عن البلدات العربية واهمالها وعدم الاكتراث لها في مجال التنظيم والبناء أعطى ذوي القوى والسيطرة في البلدة العربية الشعور بان البلدة العربية "مغلقة" و"خارج القانون" وان تنفيذ الجرائم فيها امر مباح وبعيد جدا عن اهتمام الدولة وعن عيونها. وقد تعزز هذا الشعور حين غاب عن البلدات العربية الدور الذي يلعبه التخطيط في مجال الأمن والأمان والذي يتمثل في تطوير البلدات كبلدات مفتوحة ومكشوفة ذات تواصل حقيقي وليس شكلي فحسب مع مؤسسات السلطة المحلية والسلطة المركزية وسلطات تنفيذ القانون، وهذه المميزات التي يجب ان تتوفر في التخطيط هي التي تزرع لدى كل مواطن الشعور بانه في بلدة لديها ضوابط اجتماعية وقانونية، ولا تبيح لكل فرد ان يفعل ما يشاء وهو رادع هام جدا يساهم التخطيط العمراني في خلقه.
ثانيا، غياب التخطيط غيّب الشعور بالبلد والمصلحة العامة. ان التخطيط هو عملية ثقافية. التخطيط يحدد المسموح والممنوع في البلد في المجال العمراني. يحدد المسموح والممنوع في الارض الخاصة وفي الارض العامة. التخطيط هو عملية شراكة اجتماعية يعبر التخطيط فيها عن رغبات الافراد وعن رؤية مجتمع البلدة ككل لمستقبل البلدة وتطوره. ان التخطيط واشراك الناس فيه يعزز انتماء الفرد لبلدته لانه يشعر حينها انه يعبر عن رأيه من خلال التخطيط، يطالب ويعترض ويؤثر. عملية التخطيط تربط المواطن بقريته وبحيه. تعزز الشعور بالتلاحم بين ابناء الحي الواحد او القرية عامة حينما يتفقون على تأمين امر معين للبلدة في المجال العمراني. وتكون هذه المشاعر غائبة حينما يغيب التخطيط والبناء المنظم كما حدث في بلداتنا العربية. بسبب غياب التخطيط والبناء في البلدات العربية اعواما طويلة تطور لدى اغلب المواطنين العرب شعور بعدم المبالاة وعدم الاكتراث بما يحصل في بلداتهم وعدم الانتماء والشعور بفقدان القدرة على التأثير والتغيير والشعور بعدم السيطرة على تطور بلدتهم ومستقبلهم. هذا الشعور عزز من جهة اخرى قدرة المجرمين والمجموعات الاجرامية على التحرك بحرية ودون خوف داخل بلداتنا العربية وما يدفعهم هو شعورهم بانهم "اصحاب البلد" وأسيادها.
ثالثا،انعدام التخطيط يعزز الفقر والآفات الاجتماعية. للتخطيط جانب اقتصاديّ. ان تطوير المناطق التجارية والصناعية يعزز قدرة الافراد الاقتصادية ويعزز ايضا قدرة السلطة المحلية الاقتصادية. ولكن انعدام التخطيط في البلدات العربية افقر سكانها وافقر سلطاتنا العربية. حسب تقرير لمراقب الدولة، فان 99% من ضريبة الارنونا عن الصناعة والمشاريع التجارية تعود للسلطات المحلية اليهودية، و%1 فقط للسلطات المحلية العربية، وهذا لغياب المخططات الهيكلية للصناعة والتجارة والمهن المختلفة. لهذا ليس غريبا ان يكون نصف المجتمع العربي موجودا تحت خط الفقر. وليس غريبا ان تكون اغلب البلدات العربية في التصنيف الاجتماعي والاقتصادي الأدنى في البلاد. ان انعدام التخطيط في البلدات العربية جعلها غير متطورة ومكتظة وهامشية وضعيفة ومنعزلة. ان منع التخطيط عن البلدات العربية ردحا من الزمن وهذا في نظري كان امرا مقصودا ومدروسا، أضعف البلدات العربية واضعف سكانها حتى تحولت البلدات العربية الى ارض خصبة لظواهر سلبية وعمليات تدمير ذاتي مثل البطالة والمخدرات والجريمة.
رابعا، التخطيط لمنع الهدم فقط. ان تخطيط بلداتنا العربية الذي تحرك في العقد الاخير على وجه الخصوص يصب جل جهده على ترخيص المباني القائمة التي بنيت لضرورة السكن في ظل غياب خرائط هيكلية تتيح ذلك. ليس هذا التخطيط من الاعوام الاخيرة متأخرا وغير كافٍ فحسب، بل انه لا يعالج ايضا الجوانب الاساسية للبلدة ولمجتمعها ومن بينها التطوير الاقتصادي والمواصلات والسياحة وسوق العقارات والنشاطات الثقافية والعدالة الاجتماعية وغيرها. على سبيل المثال، تعاني بلداتنا العربية من ازدحام كبير وشوارع مكتظة تعاني ازمات سير رهيبة وكثيرة هي المرات التي ادى بها هذا الزحام الى النزاعات بين الناس. اذكر على سبيل المثال ايضا الاقتتال على الاراضي وقسائم البناء وهو أمر شائع جدا، ذلك ان انعدام التخطيط وعدم العمل عقودا طويلة على خلق سوق عقاريّ متطور في البلدات العربية ادى الى ارتفاع اسعار الاراضي فيها. هذا الامر حول الارض الى سلعة غالية وثمينة جدا يحارب الناس من اجل الوصول اليها ويحارب من يمتلكها للحفاظ عليها بكل ما اوتي من قوة. كما ان ارتفاع سعر الاراضي عزز قوة من يمتلكون الاراضي لتصبح الارض سمة من سمات قوتهم ونفوذهم وسيطرتهم في البلدة. وان انحسار الارض لدى عائلات معينة مع غياب بدائل سكنية وعقارية لمجموعة كبيرة من الناس يعزز النفور والتباعد والمشاحنات بين الناس وهو تربة خصبة للاقتتال الداخلي بين العائلات بل حتى بين افراد العائلة ذاتها. ارى امثلة كثيرة على ذلك عند تحريك مخططات توحيد وتقسيم الاراضي او ما تسمى ايضا بمخططات اعادة تقسيم الاراضي وهي المخططات النهائية التي يحتاجها اصحاب الاراضي من اجل الحصول على رخص بناء على قسائمهم الخاصة. في اكثر من مرة تخاصم اصحاب الاراضي على الحقوق في القسائم التي تنتجها هذه المخططات وعلى حدودها وعلى حيازتها، وقد وصلت هذه النزاعات حتى الى مرحلة العنف الجسدي والطعن والقتل. الحال ذاتها اراها ايضا عندما تنشر دائرة اراضي اسرائيل مناقصات للحصول على قسائم بناء في البلدات العربية، وهذه المناقصات لشحها تأجج النزاعات بين المنافسين على هذه القسائم وهي ايضا تعزز من نفوذ ذوي الاموال الذين يقترحون اسعارا كبيرة لشراء القسائم وهذه الاسعار ليست بمقدور اغلب المواطنين في البلدة فتصبح القسائم حكرا على ذوي الاموال والنفوذ وفي بعض الاحيان حكرا على مجموعات اجرامية خارجة عن القانون.
حقا، ان الجانب التخطيطي لبلداتنا العربية ليس المسبب الوحيد او المركزي لظاهرة العنف والجريمة، لكنه في نظري مرض مع أمراض اخرى أضعفت جسد مجتمعنا العربي وجعلته غير قادر على مواجهة طاعون العنف والجريمة. ان التخطيط هو "جهاز التنفس" لاي بلد. هو جهاز طبيعي للحفاظ على البلدة وافراز الظواهر السلبية فيها. ويشبه غياب التخطيط بركة ماء لم تتحرك الماء فيها زمنا طويلا حتى اصبحت هذه البركة بعد فترة مستنقعا يجمع فيه الاوساخ والتلوث والآفات. كذا للاسف اصبح عدد من بلداتنا العربية التي لم تتمتع بالتخطيط زمنا طويلا وهو ما اعتبره "الدورة الدموية" لأي بلد سليم، حتى وهنت بلداتنا العربية واصبحت لقمة سهلة للجريمة والعنف والآفات الاجتماعية الكريهة الاخرى. علينا جميعا ان نتعامل مع التخطيط على انه مشروع اجتماعي وثقاقي واقتصادي لبنيان مجتمعنا وبلداتنا العربية. التخطيط ليس عملية تجميل للبلدة وليس أمرا من كماليات البلدة. التخطيط هو البلدة. التخطيط هو المجتمع. التخطيط هو حق اساسي لسلامة اي مجتمع. هلموا نمارس هذا الحق لحماية مجتمعنا من العنف والجريمة والحفاظ عليه مجتمعا سليما وسويا وراقيا وفي الطليعة دائما!
* مرشح للقب الدكتوراة في القانون من جامعة تل ابيب.
[email protected]
أضف تعليق