تعهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أثناء حملته الانتخابية بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس المحتلة، ليسلك بذلك نهجاً مخالفاً لما التزم به أسلافه من رؤساء جمهوريين وديمقراطيين، الذين ظلوا على إصرارهم بضرورة تحديد هذه المسألة في سياق مفاوضات سلام، بعد وصوله إلى البيت الأبيض، لم يقم بمثل هذا الاعتراف لستة اشهر إضافية، عملاً بتطبيق القانون الذي أقره الكونغرس عام 1995، عدم قيام ترامب بتفعيل هذا القانون والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل مع نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، بذريعة إعطاء فرصة لحملة السلام التي أطلق عليها إعلامياً «صفقة القرن» والتي يقودها صهره ومستشاره غاريد كوشنير، فكان التأجيل لمرة واحدة في حزيران 2017، حيث أمكن له الإقدام على هذه الخطوة بعد ستة أشهر عندما وقع على القرار أواخر العام المذكور.
لم يكن مبرر ترامب وحاشيته للتأجيل الأول على القرار، يعود إلى ما أشاروا إليه، إعطاء فرصة لعملية السلام، ذلك أن القرار اللاحق بعد ستة أشهر، يؤكد أن ذلك لم يكن المبرر الحقيقي لذلك التأجيل، بل ان ما كان وراء هذا التأجيل، دراسة العواقب المحتملة لمثل هذا القرار، والبحث عن بيئة سياسية من شأنها الحدّ من ردود الفعل المحتملة، ولاحظنا خلال الستة أشهر الفاصلة بين التأجيل والقرار، تلك البيئة الحاضنة لمثل هذا القرار، ونقصد هنا البيئة العربية، ففي تلك الفترة، رأينا كيف بات ملف التطبيع العربي مع إسرائيل يتقدم خطوات منهجية مدروسة، تسريبات ثم إعلانات صريحة، من أفراد ثم من مسؤولين عرب، تهيئ لعملية تطبيع ثم تداولها بجرأة لم تكن معهودة طوال العقود السابقة، هذه البيئة الحاضنة هي التي مهّدت لقرار ترامب حول القدس.
ولمزيد من دراسة ردود الفعل المحتملة، كانت هناك فترة زمنية لم تكن محددة بوضوح بين قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، كان هناك احتمال بأن يتسلح العرب للرد على قرار الاعتراف بقرارهم المتخذ في قمتهم في العاصمة الأردنية عمّان عام 1980، بشأن قطع العلاقات مع الدول التي تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وهو القرار الذي تم تأكيده مجدداً في قمتين عربيتين لاحقتين، بغداد عام 1990، والقاهرة عام 2000، لكن المنظومة العربية، تجاهلت تماماً قرارات الرؤساء والملوك والأمراء والسلاطين، بنفس الدرجة التي تجاهلت فيها قرارهم المتعلق بالمبادرة العربية في لبنان في آذار عام 2002، واتجهت للتطبيع المتدرّج، خطوة خطوة مع الاحتلال الإسرائيلي، انقلاباً على ما جاء في هذه المبادرة التي سميت باسمهم ومنحوها توقيعاتهم، ثم القرار الأميركي بالاعتراف، وسرعان ما تم نقل السفارة، من دون أي ردود فعل يمكن لها أن تزعج الحليف الأميركي للنظام العربي، وتمت تهيئة هذه البيئة للقرارات اللاحقة في الخطة الأميركية «صفقة القرن» حول «الأونروا» والتمويل وإغلاق مكتب منظمة التحرير، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان المحتلة، وظلت ردود الفعل على ذات المستوى الذي يمكن «تفهمه» من قبل البيت الأبيض.
من المحيط إلى الخليج، وفي القلب منهما فلسطين، الجميع يتحدث عن مواجهة صفقة القرن، على أساس أن هذه الصفقة ستعلن بعد شهر رمضان، وكأن كل تلك القرارات لم تكن في جوهر وأساس هذه الصفقة التي لم يتم مجابهتها. نتحدث عن المستقبل دون أن ندرك أننا لم نفعل شيئاً في مواجهة أسس هذه الصفقة، وكأننا نعترف بأن هذه الأسس مجرد قرارات لا شأن لها بصفقة هدفها تصفية قضية فلسطين وقضايا العرب، ومن لم يواجه كل القرارات المجرمة السابقة، كيف له أن يواجه توابع هذه القرارات، مهما حشد من مبادرات وخطبٍ بلاغية!!
[email protected]
أضف تعليق