لم يكن عدم حضور عدد من الملوك والرؤساء العرب القمة الثلاثين التي انعقدت أول أمس في العاصمة التونسية، بحضور أكثر قليلاً من نصف القادة العرب، فقط هو المظهر السلبي، ولا مغادرة أمير دولة قطر، تميم بن حمد خلال إلقاء أمين عام جامعة الدول العربية كلمة الافتتاح، دون أن يلقي هو شخصياً كلمة بلاده في القمة، فقط، بل إن استضافة القمة نفسها لم تعد تغري أحداً نظراً لهشاشتها وضعف رسالتها، لدرجة أن الإعلام يتجاهلها ولم يعد يرى فيها حدثاً أول، في ظل متابعة يوم الأرض الفلسطيني مثلاً، لذا فقد انتهت أعمال القمة في سابقة لم تحدث من قبل، وهي عدم الإعلان عن مكان انعقاد القمة القادمة!
في محاولة منه للتقليل من معزى تلك الإشارة قال أمين عام الجامعة احمد أبو الغيط، بأن الأصل هو أن تعقد القمة في دولة المقر، أي في مصر وذلك حسب الميثاق، إلا إذا تقدمت دولة حسب الأحرف الأبجدية بطلب استضافتها، أي أن دولة عربية من بين دول: الجزائر، جيبوتي أو جزر القمر لم تتقدم بطلب انعقاد القمة، ربما لأن أوضاع الجزائر حالياً لا تسمح لها بمعرفة ما سيكون عليه حال البلاد بعد عام من الآن.
عموماً هذا جانب من الصورة التي ما زالت ترافق القمة العربية في مناسبة انعقادها الدوري السنوية، والتي تعكس حال الموقف العربي الرسمي الجماعي والمشترك منذ سنوات طويلة، والتي تعكس ضعفا بينا وواضحا، لا يصل إلى أدنى طموح شعبي لأمة عريقة تمتلك من المقومات الشيء الكثير لتكون واحدة من الأمم المهمة في هذا العالم، وبما يعكس الفجوة الواسعة بين المستويين الرسمي والشعبي، حيث أن الأمر يكون أسوأ بكثير حين يتم استعراض قرارات تلك القمة، التي لا تعدو كونها حبرا على ورق من جهة، ومن جهة ثانية، حتى قراراتها التي تبقى حبرا على ورق لم تعد بتلك القوة والجرأة التي كانت عليها قبل عقود مضت.
ولعله كان من سوء حظ هذه القمة أنها انعقدت للمرة الثانية على وقع قرار أميركي صاخب، أقل ما يقال فيه إنه معاد تماماً للحق العربي، وأبعد ما يقال فيه أنه بمثابة إعلان حرب على العرب، ونقصد بذلك إعلان البيت الأبيض عن اعترافه «بالسيادة الاحتلالية الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل» تماماً كما كانت القمة السابقة قد انعقدت بعد إعلان مماثل للبيت الأبيض الأميركي عن القدس عاصمة لإسرائيل، حيث اكتفى القادة العرب، بعد أن جبنوا عن الإعلان منفردين قبل أيام عن مواقف قوية ضد الإعلان الأميركي، بإعلان ورقي عن عروبة الجولان، في حين كان بإمكانهم أن يعلنوا موقفا أقوى بكثير، يبدأ بالرد بدعوة الرئيس السوري بشار الأسد لحضور القمة، وبعد ذلك بإعلان مقاطعة جماعية للولايات المتحدة على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي.
لو كانت هناك جدية، لتجاوز القادة العرب بكثير مواقف الدول الأخرى من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهم يعلمون بأن ما يمكن أن يؤثر على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هو استخدام القوة الاقتصادية، حيث أن الرجل لا يقيم وزنا إلا للمال، الذي صار به يرسم سياسة بلاده الخارجية، فلو أعلنت القمة مثلاً عن وقف مشاريع الاستثمار المشتركة مع الولايات المتحدة، بما في ذلك تجارة السلاح، لما تجرأ الرجل لا على القدس ولا على الجولان، ولو أنهم أعلنوا مثلاً عن رفضهم استقبال عرّابي صفقة القرن، وأنهم ضد الصفقة أصلاً، وأنهم سيقفون بكل قوة إلى جانب الشعب الفلسطيني في كفاحه من أجل وأدها في المهد لاختلف الأمر تماماً.
لكن ما الذي يفسر كل تلك الحالة من الضعف والهوان اللذين تظهر عليهما الأمة العربية في العنوان الرسمي؟ بالإجابة على ذلك نظن، بأنه ومنذ سنوات قد انتقل مركز ثقل الأمة من قوى التحرر والقوة العربية ممثلة بمثلث دول المركز والثقل الشعبي والتاريخي، ولعل الجغرافيا هنا، تضاف إلى تراث التحرر العربي، هي التي توضح صورة الموقف بشكل أكبر.
فمعروف أن مصر وسورية، الأردن ولبنان والعراق هي دول جوار فلسطين، التي هي على تماس مباشر بالخطر الإسرائيلي، منذ احتلال فلسطين، والذي تأكد من خلال احتلال إسرائيل بعد إعلان إقامتها لأراضي معظم تلك الدول، أي الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية، بعد أن كانت قد احتلت أيضا سيناء المصرية والجنوب اللبناني وحتى الضفة الغربية بما فيها القدس وكانت ضمن حدود المملكة الأردنية الهاشمية، فيما دول الخليج العربي على تماس مع ما تعتقد أنه الخطر الإيراني، بعد أن احتلت إيران الجزر الإماراتية الثلاث وعرب الأهواز، كذلك تهديدها للبحرين وتدخلها بشؤون العراق واليمن ولبنان، بما يعني أنه كلما زاد نفوذ دول الخليج ارتباطاً بقوة تأثير المال على السياسة العربية، زاد الاهتمام بإظهار وتقديم الخطر الإيراني على الخطر الإسرائيلي.
وحيث إن دول الخليج نفسها منقسمة على ذاتها منذ بضع سنوات، بعد انفجار الخلاف بين قطر من جهة ونصف دول الخليج من جهة أخرى، فإن الموقف الخليجي نفسه بات أضعف مما يمكن أن يكون عليه، وبالتالي فإن مجمل الموقف العربي بات مجرد ورقة جافة في مهب الريح الأميركية خاصة.
المشكلة التي تتزايد التوقعات بشأنها، هي أنه كلما ضعف الموقف الرسمي، احتقن الموقف الشعبي، الذي لن يقف عند حدود الجزائر والسودان اللتين لم تشاركا في القمة بحضور رئيسَي البلدين، بل إن الملعب العربي إذا ما انهارت حوائط الصد فيه إن كان في وجه إسرائيل أو حتى إيران، سيكون أرض حرب بين إسرائيل وإيران، ومنطقة تقاسم نفوذ، فيما ستكون كل من دول الجوار لفلسطين ودول الخليج، أي دول الجوار لإيران، منطقة مكشوفة، بل أرضا محروقة في حرب تقاسم تركة الرجل العربي المريض بين دولتي إيران وإسرائيل، وحيث إن أهم جدار يقف في وجه إسرائيل هو الصمود الفلسطيني فإن خط الدفاع الأخير بات هو الموقف العربي من معركة تجفيف القدرة على الصمود المتمثلة بالسطو على المال الفلسطيني، حيث كانت كلمة الرئيس محمود عباس واضحة وجلية، وهي زورق النجاة الوحيد والأخير لكل العرب، قبل أن يغرقوا جميعاً، في بحر الظلم والظلمات الذي يمتد من تل أبيب إلى واشنطن.
[email protected]
أضف تعليق