كلما مر الوقت اتضح بأن الرئيس الأميركي الخامس والأربعين الحالي دونالد ترامب، يقود سياسة خارجية وحتى داخلية لبلاده، أقل ما يقال فيها، أنها تمثل انقلاباً على سياسة الإدارات السابقة للبيت الأبيض، خاصة تلك التي اتبعت خلال نحو ثلاثة عقود مضت، أي منذ انتهاء الحرب الباردة، التي بنتيجتها تم «تتويج» الولايات المتحدة الأميرية كزعيم منفرد أو قائد أوحد للمجتمع الدولي، وبأن ما أشيع عن تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر استخدام وسائل الاتصال الالكتروني الحديثة في الانتخابات الأميركية التي حملت ترامب للبيت الأبيض، إن كانت صحيحة فإنها تدل على دهاء وسعة أفق وحنكة الدب الروسي السياسية، والتي معها يمكن القول بأن الدب الروسي كان ثعلباً وليس دباً هذه المرة !
فخلال عامين مضيا على وصول ترامب لسدة الحكم، ظهر كما لو كان «دونكيشوت» عصرياً، يصارع طواحين الهواء في كل اتجاه، بما جعل من بلاده تدخل في معارك عدة، منها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي، وفي كل الساحات والمواقع المختلفة، إن كان داخل البلاد، أو خارجها.
ففي داخل البلاد ما زال يخوض ترامب حرباً ضروساً مع الحزب المنافس لحزبه الجمهوري، أي الحزب الديمقراطي داخل الكونغرس، حول الميزانية حيث يريد من ممثلي الشعب الأميركي أن يقروا له بنحو سبعة مليارات دولار لبناء جدار الفصل الحدودي مع المكسيك، لفرض العزلة على بلاده تجاه الجار التاريخي بحجة إغلاق باب الهجرة غير الشرعية، وخارج البلاد، حدث ولا حرج، فمن حرب التجارة العالمية مع الصين، إلى فرض الضرائب على الحليف الأوروبي والجار الكندي، وصولا إلى محاولة «تدفيع» الاتحاد الأوروبي» خاوة» لواشنطن على قيادتها لحلف الناتو.
ولا يقتصر الأمر عند هذه الحدود، فقد بدأ أيضا بتوتير العلاقة مع روسيا، بإعادة أجواء سباق التسلح، التي كان آخر فصولها قبل نحو ثلاثين عاما، حين ابتكر سلفه الراحل رونالد ريغان ما سمي بحرب النجوم، ليفكر ترامب بشق الطريق إلى حرب الفضاء، عبر استخدام الأقمار الصناعية لتنفيذ مهام عسكرية، وصولاً إلى فصل من فصول الحرب الباردة يلوح بالأفق في الملف الفنزويلي.
وبالطبع يضاف إلى هذا التوتير المتصاعد للعلاقة مع إيران، بعد أن كان سلفه الديمقراطي باراك أوباما، قد نجح في قيادة العالم إلى عقد الاتفاق التاريخي مع إيران حول برنامجها النووي، وحتى الملف الوحيد الذي قام بتهدئته بعد أن بدأ هو شخصيا بتسخينه، ونقصد به الملف الكوري، ما زال يراوح مكانه بعد لقاء ثان جمعه مع الزعيم الكوري، كيم جونغ أون.
ولعل أسوأ مظهر لحالة الانقلاب السياسي التي تحدثها إدارة ترامب بعد مضي نصف ولاياتها الأولى في البيت الأبيض هي جملة سياساتها تجاه ملف الصراع في الشرق الأوسط، وبالمركز منه ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، فحيث ظهرت إدارة ترامب على قدر كبير من التماهي مع الحكومة اليمينية الإسرائيلية المتطرفة، فقد اتخذت جملة من القرارات ما كانت حكومة بنيامين نتنياهو تحلم بها، حتى لو أن إسرائيل كانت قد احتلت واشنطن وفرضت عليها الاستسلام لها، ونقصد بذلك بالطبع القرار الخاص بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، والسياسة الخاصة باللاجئين ثم ممارسة أقسى أشكال الضغط على الجانب الفلسطيني، وصولاً إلى الإعلان ليل نهار عن إعداد صفقة القرن في أروقة البيت الأبيض، وخارج إطار التفاوض مع المعنيين بالأمر خاصة الجانب الفلسطيني، والشرعية الدولية بالطبع.
ليست هنالك أوهام سياسية تداعب مخيلة فلسطيني، مراقباً كان أو مسؤولاً، تقول بأن إدارة أميركية كانت ضد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، خاصة وان القرار بنقل السفارة متخذ من قبل الكونغرس منذ نحو ربع قرن، لكن استخدام الرؤساء السابقين صلاحياتهم بتعطيل تنفيذ القرار كل ستة أشهر، كان حفاظاً على حالة التوازن السياسي، وعلى دور الولايات المتحدة كوسيط بين الطرفين، وتماشياً مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة بما في ذلك قرارات مجلس الأمن التي تعتبر القدس مدينة محتلة، كذلك عدم محاولة أن لا تظهر الولايات المتحدة كملكية أكثر من الملك، حيث أن إسرائيل نفسها، كانت قد أقرت وفق اتفاقات أوسلو بأن القدس واحدة من قضايا التفاوض حول الحل النهائي مع الجانب الفلسطيني.
لكن أن تقدم إدارة ترامب هذا «التنازل» لإسرائيل بالمجان، هذا هو المستغرب والذي ينم عن غباء وحمق سياسي لدى إدارة ترامب، حيث كان يمكنها أن تحتفظ بهذه الورقة بيدها، تقدمها لإسرائيل مقابل أن تقدم إسرائيل لها ولمصالحها في الشرق الأوسط مقابلا، لكن أن تذهب إدارة ترامب بالتجريب السياسي إلى هذا الحد، فهذا قد اضر بالمكانة السياسية للولايات المتحدة بقدر ما أضر بالجانب الفلسطيني.
ولعل ظهور طاقم أركان البيت الأبيض، من صهر ترامب جاريد كوشنير إلى مبعوثه الخاص جيسون غرينبلات مرورا بسفيره لدى إسرائيل ديفيد فريدمان، كما لو كانوا أعضاء في حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي، فهذا يعني بأن ترامب قد قام باستخدام برنامج «القرص المضغوط» بتصغير حجم ومكانة الولايات المتحدة، بحيث أنها لا تظهر في الشرق الأوسط وحتى في معظم دول العالم، كأكثر من دولة عادية بحجم إسرائيل أو حتى ميكرونيزيا !
وها هو يعاكس العالم كله بالإعلان عن أنه ينوي الاعتراف بقرار إسرائيل الاحتلالي بضم الجولان السوري المحتل والمتخذ عام 1981، لتعود الولايات المتحدة بالظهور كدولة معزولة في الجمعية العامة وحتى مجلس الأمن الدولي، والسؤال هنا لماذا يفعل ترامب كل هذا، إن لم يكن بدافع من قلقه على ولايته الثانية بالسعي لدعم اللوبي اليهودي، فإنه بالقطع بدافع آخر يشي بعنصرية فاضحة تعلي من شأن الأبيض الأميركي تجاه الآخرين، تلك العنصرية التي أطلقت سفاح نيوزيلندا ودفعته لارتكاب جريمته في مكان عبادة المسلمين وقتل العشرات من المصلين منهم.
[email protected]
أضف تعليق