كان ظهور رئيس الأركان الإسرائيلي السابق بيني غانتس الأول قبل أيام، بإعلانه تشكيله لحزب إسرائيلي جديد وترشحه للانتخابات، بمثابة قوة دفع إضافية للرجل الذي بدخوله على خط الانتخابات الإسرائيلية المبكرة، أضفى عليها نوعاً من الإثارة التي كانت تفتقدها، لحظة اتخاذ القرار بتبكير موعد انتخابات الكنيست الواحد والعشرين، فهذه المرة، لم تمنح استطلاعات الرأي غانتس نسبة قريبة من رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، لدى الناخبين الذين يفضلونه كرئيس للحكومة وحسب، بل منحت قائمة انتخابية يترأسها الموقع الثاني من حيث عدد المقاعد التي يمكن أن تحصل عليها.
ورغم أن استطلاعات الرأي ما زالت تمنح حزب الليكود الحاكم العدد الأكبر من المقاعد إلا أن آخر استطلاع رأي منح قائمة غانتس عدداً من المقاعد وصل إلى 24 مقابل 30 لليكود، وهو بذلك يحتل الآن مكانة المعسكر الصهيوني في الانتخابات السابقة، مع العلم أن نحو عشرة أسابيع ما زالت تفصل الأحزاب الإسرائيلية عن يوم الانتخابات، فإذا ما حدث فيها تطور جديد يمكن أن تصبح الانتخابات التي بدت لأول وهلة سهلة ودونما إثارة، دراماتيكية جداً، خاصة إذا ما أعلن عن استدعاء نتنياهو مثلاً إلى القضاء على خليفة اتهامه بتلقي الرشاوى.
وإذا كان معظم الأحزاب الذاهبة إلى انتخابات الكنيست القادم، بل حتى قياداتها، أحزاباً تقليدية معروفة للإسرائيليين ولغيرهم، فإن الجديد هذه المرة دخول القائمة الأمنية المشتركة بين قادة الأمن السابقين الناجمة عن تحالف بيني غانتس رئيس الأركان السابق وموشيه يعالون وزير الدفاع السابق، مع احتمال أن تشمل القائمة رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت، ما يعني أن هذه القائمة الأمنية إن لم تفز بالمركز الأول وتتولَ مسؤولية تشكيل الحكومة، فإنها ستتولى قيادة المعارضة، وهذا يعني أن رضا الجمهور الإسرائيلي عن الأداء السياسي لحكومات اليمين السابقة برئاسة نتنياهو إنما كان ينقصه الجانب الأمني، خاصة مع ظهور تحديات أمنية محيطة بإسرائيل من كل جانب.
أي أنه ليس هناك مزاج شعبي إسرائيلي باتجاه اليسار أو الاعتدال ولا حتى الوسط، ولكن رغبة بمزاوجة الأمن مع التطرف اليميني، وفي كل الأحوال فإن إسرائيل مقدمة على تشكيل حكومة تكون صالحة لقيادة الدولة والسير بها عدة أعوام قادمة... حكومة تتمتع بالخبرة السياسية والتشدد من جهة وبالقوة الأمنية من جهة ثانية، وقد تكون هذه المرة الأولى التي يتم فيها تشكيل حكومة من خارج رحم الحزبين التقليدين: العمل والليكود، ورغم أن رؤساء الحكومات السابقة كلهم كانوا بخلفيات أمنية، إلا أنهم كانوا يتولون الحكم باسم أحزابهم السياسية، لكن هذه قد تكون المرة الأولى التي يصل فيها إلى مقعد الحكم قادة عسكريون، معتمدين على هذه الخلفية وليس على انضمامهم لأحد الحزبين الكبيرين تاريخياً.
المهم أنه إزاء الترتيبات الإسرائيلية الداخلية، وبعد إجراء الانتخابات، ستكون هناك حكومة تُعلي من شأن الأمن، أكثر من اهتمامها مثلاً بأمور المستوطنين، حيث إن الصورة ستصبح أكثر وضوحاً بعد إعلان نتائج الاقتراع، لكن ربما بات الأمر البعيد عن التوقع أن يتمتع حزب البيت اليهودي أو اليمين الجديد بمكانته التي كان عليها في الحكومة الحالية، ذلك أن هذه الانتخابات إن كانت تشهد أهم حدث وهو تشكيل القائمة الأمنية وتحديها لقوة الليكود، فإنها أيضاً تشهد تشظياً وإعادة فك وتركيب القوائم والأحزاب الحالية.
بالمقابل، فإن محاولة القيادة الفلسطينية ترتيب الوضع الداخلي على نحو أكثر واقعية، بعد تبدد الوهم المتمثل بقبول حركة "حماس" باستحقاق إنهاء الانقسام، وتشكيل الحكومة الوطنية، تعني ردّاً على التشكيل الحكومي الإسرائيلي القادم، ذلك أن حكومة الفصائل تعني أن تلتزم ببرنامج م ت ف، وأنها ليست حكومة الشأن اليومي الداخلي، وليست حكومة الخدمات العامة، وأنها أشارة إلى إعادة الاعتبار لتصدُّر م ت ف كمرجع وعنوان قيادي، بانسحاب تدريجي لحكومة السلطة الملتزمة ببرنامج أوسلو والناجمة عنه أصلاً.
حتى الصيف، يمكن القول: إن هناك فترة ترتيبات داخلية على جانبي خط الصراع، استعداداً لجولة حادة من الصراع الحاسم، الذي لا يحتمل المراوغة أو التسويف، فإما تنجح إسرائيل بفرض حقيقة الأمر الاحتلالي الواقع، وإما ينجح الشعب الفلسطيني بفرض الانكفاء عن الاحتلال.
لهذا فليس هناك مجال للاستمرار في التلكؤ والمراوغة كما تفعل حركة "حماس" الآن وكأن الواقع الفلسطيني يعيش في جزيرة معزولة عمّا يحدث في الكون، وبالأخص في الشرق الأوسط، فنحن الآن في مرحلة ما بعد "الربيع العربي"، حيث تبددت أحلام "الإخوان المسلمين" وقطر وحتى تركيا في السيطرة على البلاد العربية ومنها فلسطين، لذا فإن حكم "حماس" لغزة، ما هو الآن إلا استثناء، ولولا أنه يخدم المخطط الإسرائيلي لتمّ إسقاطه منذ زمن طويل.
على "حماس" أن تتخذ قراراً فورياً بتسليم الحكم في قطاع غزة لقيادة م ت ف، وأن تجد لها مكاناً لائقاً في الإطار الوطني، وإلا فإنها مع مرور الأيام القليلة القادمة، ستجد نفسها في موقع آخر، ولن يجديها نفعاً الاستمرار في التعلق بحبال قطر ومندوبها في غزة محمد العمادي، الذي يشبه "بابا نويل" الذي يقوم بتوزيع الألعاب والهدايا المسمومة التي لا تغني غزة من جوع ولا تمنعها من خوف، وإذا كانت غزة تعتقد أنه يمكنها أن تشد الحبل مع إسرائيل خلال الشهرين القادمين مستغلة الظرف الانتخابي، فإنها يجب أن تعلم أن المؤقت لا يعني أنه يمكن به صنع التاريخ، وأن الحلول المؤقتة ما هي إلا مسكنات، فالقادم إن لم تشارك بصنعه، فلن تجد لك مكاناً فيه، وأن تموت "حماس" كما الأشجار واقفة إنما هو خير لها من أن تعيش زاحفة على بطنها تحت قدمي العمادي، وأن تكون "تحت رحمة" الأخ الفلسطيني الشقيق خير لها من أن تظل تحت رحمة الأخ العاق الذي يتحقق فيه المثل: من ساواك بنفسه فما ظلم، فليس هناك من خير يرجى من نظام ينقلب الابن فيه على أبيه، وما هي إلا لحظة من التاريخ الذي لا يرحم لا الأغبياء ولا الجبناء.
[email protected]
أضف تعليق