قرن من الزمان مضى على ذلك الوعد المشؤوم الذي أطلقه وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور ومنح بموجبه اليهود فلسطين كوطن قومي لهم. مائة عام مرت والايام هي الايام يعيش فيها الفلسطيني آلامه ومعاناته التي ما زالت متواصلة.
ما اقرب الامس من اليوم، خاصة حين يتصل هذا الامس بما نعيشه اليوم من سياقات سياسية وفكرية تكاد تتشابه الى درجة التطابق. نقول عنها مؤامرة، ويصفها البعض بالمشروع الشيطاني، لكن في المحصلة هي استهداف لشعب بأرضه وتاريخه ومستقبله السياسي، نعم هي مؤامرة التقت فيها المزاعم والاساطير الصهيونية مع الاطماع الصهيونية لدول الاستعنمار الغربي فكان الشعب الفلسطيني هو الضحية التي دفعت ثمن كان يمكن ان تدفعه اي دولة في المنطقة لو وقع عليها الاختيار..
مؤامره تتكرر فصولا مع فارق زمني بين امس كانت اوصال الامه فيه ممزقه بفعل استعمار كولونيالى مباشر واستعمار اقتصادي وأمني، وقد يصبح نفسي ايضا ومباشر، وحاضر تغيب فيه الارادة العربية وتسلب شهامة لا زالت الاجيال تتغنى بها. ففى الثانى من شهر تشرين الثاني من عام ١٩١٧ وبعد مرور نحو ثلاثة سنوات على الحرب العالميه الاولى التى كانت العوامل الاقتصاديه إحدى اسبابها والتي تمحورت حول اعادة توزيع المستعمرات بين الدول الفتيه الساعيه الى التحول من دول رأسماليه صناعيه الى امبرياليه ذات اقتصاد ما فوق قومي، وهنا بدأت الرواية الاستعماريه ببعديها القومي والعالمي. وهذا عائد بطبيعة الحال الى عداء كان يتشكل فى المجتمعات الاوروبيه بشكل عام وفي بريطانيا والولايات المتحده الامريكية بشكل خاص، والذى ترتد اسبابه كرها للنشاط الاقتصادي لليهود المقيمين فى تلك الدول وهو بدوره اصبح يهمش دور البرجوازيات المحليه بسبب ان الرأس المال اليهودي كان فى حركه دائمه بحثا عن مجالات توظيف وإستثمار فى الدورات الاقتصاديه لهذه البلدان التى كانت تتعثر وتنتقل من ازمه الى اخرى لأسباب عده، خاصه ان رأسمالية الدوله ملزمه بالتقديمات الاجتماعيه للشعوب بينما الرأس المال اليهودى كان متحررا من هذه القيود، مما اجج العداء لليهود وطرح على طاولة البحث ضرورة ايجاد حل لهذه الحاله باخراجها من دائرة الاقتصاد. نا ان نتذكر ما ردده الرئيس الاميركي الاسبق ابراهام لينكوين وما ردده ايضا العديد من المنظرين الاقتصاديين الاوروبيين وما بينه ما قيل عن الهولوكست والمحرقه، بغض النظر دقة ارقامها الا انها تعكس حاله من الكره لليهود، الذين ان كان لديهم قدرات ماليه عاليه لكن حياتهم كانت تشبه حياة الغجر بسبب تكرار الترحال لديهم سعيا منهم لتوظيف اكبر قدر ممكن من الاموال والاستثمار..
في هذه المرحلة بالذات بدأت بريطانيا وساستها بالتفكير الجدى بالتخلص من هذا النشاط الاقتصادى لليهود. ففى العام ١٩١٤ بدأت الحرب العالميه الاولى وخرجت الامبراطوريه العثمانيه منها مهزومة ، وقد كان لها دور غير مباشر فى هجرة اليهود سرا في هذه الحقبة الزمنيه. وقبل انتهاء الحرب العالميه الاولى بعام، اعلن عن وعد بلفور الذى بموجبه منحت فلسطين الى اليهود كوطن قومي لهم تحت شعار "شعب بلا ارض لأرض بلا شعب"، وفى هذه الفكره تقاطع وزير الخارجية البريطاني مع ما سعى اليه المحامى حايم هيرتزل فى مؤتمر بال الصهيوني فى سويسرا حيث عبر من خلاله عن ضرورة تجميع اليهود فى وطن قومي يؤسس عبره لبنى اقتصاديه وسياسيه يكون عبرها الرأسمال اليهودى طليق اليدين، علما ان هيرتزل رغم كونه يهوديا غير متدين، لكنه وجد في اليهوديه ملاذا آمنا لافكاره الصهيونيه المتطرفه فألبسها هذا الثوب مع ادخال الروايات التلموذيه لتأخذ طابع حضاره دينيه كباقي الحضارات..
على هذا تقاطعت المصالح الاستعماريه الرأسماليه والفكر الصهيونى خاصه بعد التطور المطرد فى الانتاج ودخول الآله فى كافة مناحي الحياة، وبدأت اوروبا الاستعداد لدخول مرحلة الامبرياليه (اعلى مراحل الرأسمالية فى التنافس على المستعمرات ومناطق النفوذ) وعيونها شاخصة على الثروات النفطيه والمواد الخام بهدف الامساك بطرق الملاحة العالمية وضمان وصول النفط اليها، وبشكل مستدام دونما اي منافسة. وهنا بدأ المشروع الاستعماري للمنطقة بالولوج الى حيز التنفيذ، وبدأت معه موجات الهجره اليهوديه الى فلسطين بشكل علني وتحت حماية رماح القوات البريطانيه التى كانت وظيفتها هي مساعدة الفلسطينيين وليس سرقة ارضهم وليس التآمر عليهم ومنح ارض لمجموعات بشرية جاءت من كل بقاع الارض لتستولي عليها..
هذه التسهيلات البريطانية للمجموعات اليهودية الوافدة قابلها عقوبات على كل من كان يسعى من الفلسطينيين لرفض هذا الواقع حيث تعرضوا بعضهم الى عقوبات قاسيه فرضتها قوات الانتداب البريطاني بشكل فردي وجماعي، الامر الذى دفع بالشعب الفلسطينى الى المقاومه والاعتراض وصولا حتى العصيان المدني وثورة العام ١٩٣٦ التى تعتبر الاطول في التاريخ، الا انه بفعل موازين القوى وتكالب المشروع الاستعماري الرامي الى ازاحة الهم اليهودي عن كاهله كانت المؤامره تزداد ضراوه، حتى استعار الازمة الاقتصادية الخانقة التى كان يعيشها المجتمع الرأسمالي والتي ازدادت سوءا معلنه الاستعداد للبدء بالحرب العالميه الثانيه..
مع بداية الحرب العالمية الثانية والتى افضت ال نتائج كارثيه على البشرية برمتها واسست لنظام عالمى جديد، بعد ان خرجت منها دولا منتصرة و اخرى منهزمة، كان المشروع الصهيوني يترسخ بشكل تدريجي ويأخذ تشكيلات سياسية وعسكرية اجراميه تقتل الفلسطينين المدنيين بدعم مباشر من الانتداب البريطاني. وبعد انتهاء الحرب وانشغال الدول المتصارعة بلملمة اوضاعها وجراحها والسعي لاعادة النهوض بمجتمعاتها والبحث عن كيفية تعويض خسائرها، وانكفاء البعض الاخر بسبب هزيمته وتبلور شكل سياسي اقتصادي جديد ودخول الدول الاستعمارية عهد جديد من مرحلة تصنيع وسائل الانتاح، فأصبحت من الضرورات القصوى تأمين وسائل الطاقة بلا أي شراكة، مع الاحتفاظ بحق العرض والطلب والسيطره الغير مباشره لهذه المواد التى يصفها المنظرين الاقتصاديين الاوروبيين بشريان الحياة، فيما الاعين ظلت شاخصه على فلسطين تتهيأ اللحظة المناسبة للانقضاض على الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية.. فكان الخامس عشر من ايار (1948) يوما اعلن فيه قيام دولة اسرائيل وهو يوم النكبه الفلسطينية والعربيه الكبرى، وكان الهدف الاساس، ولا زال، نهب ثروات المنطقه وفى مقدمتها النفط والسيطره على طرق الملاحه والمضائق المائية، وأن يكون هذا الكيان قاعدة متقدمة لحماية مشاريع الدول الاستعمارية ومنع اي دور تحرري فى المنطقه وقمعه في مهده، وفي مقابل ذلك دعم خلق كيانات عربيه مرتبطة كيانيا بهذا المشروع وشطر اي مشروع نهضوي عربي بل وعزل مشرق الامة عن مغربها وصولا لكل اشكال التقاتل والفتن وضرب الدولة الوطنية..
مئة عام وعام علىعد بلفور ولا زلنا حتى الآن نعيش فصوله التي لم تنته بعد. قاومناه وما زلنا في مكاننا نواصل كفلسطينيين وعربا مقاومة هذا المشروع الذي اجمعنا عليه كقوى تقدمية بانه استهداف لكل الامة، وان لا نهضة لهذه الامة الا عبر البوابة الفلسطينية، واعتبار ان قضية فلسطين كانت ويجب انم تبقى عنوان النضال، ليس الفلسطيني والعربي وحسب، بل عنون النضال التحرري على امتداد العالم، نظرا للابعاد الانسانية والاخلاقية التي تحملها هذه القضية. ولن يغير من هذا الامر بعض ما تشهده المنطقة من إرهاصات وتراجعات، بعد تفتيت اكثر من دوله وازنة، عبر الفتن والصراعات الطائفية والمذهبية والاثنية التي لم تترك شيئا الا ومسته حربا وخرابا وتدميرا، يغذي ذلك سياسات رسمية لبعض الانظمة العربية التي لم يعد لها هم الا النأي بنفسها بعيدا عن مصالح وتطلعات شعوبها والحفاظ على مقاليد الحكم. وقد كانت البداية مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد التى حولت نصر الجيش المصري الى هزيمة سياسيه. تلاها اتفاق اوسلو الذي ضحى بالانتفاضة الاولى التي امتدت لستة اعوام وقدم راسها قربانا للادارة الامريكية التي نجحت في جعل الحالة الرسمية الفلسطينية اسيرة مفاوضات بات الجميع يدرك انها عنوانا لاستكمال تصفية الحقوق وبأياد فلسطينية في ظل تصاعد حالة التبعية العربية التي باتت تتفنن في اختراع اشكال تطبيعية لم نعهدها منها الرياضي والاقتصادي والثقافي وغدا السياسي وانهاء حالة العرب مع اسرائيل واعلان الاستسلام النهائي لها.
[email protected]
أضف تعليق