قد نكون نحن الفلسطينيين أكثر شعوب العالم عقداً للاجتماعات والمؤتمرات بمختلف أشكالها، ومع ذلك، للأسف الشديد، فإن هذه الاجتماعات والمؤتمرات لا تخرج إلا ببيانات ختامية، وتظل مجموعة التوصيات أو المطالب أو حتى أطروحات التغيير التي تتبناها في مسلك أو قضية ما دون أن تتحقق.
نتعرض لضغوط كثيرة، وعلى رأسها الضغوط المالية، وبشكل خاص من الولايات المتحدة التي تحاول العودة بالعالم إلى مفهوم القطب الواحد أو شرطي العالم، وعلى الرغم من ذلك نتخبط في مجابهة هذه الضغوط.
لو استطلعنا البيانات والتصريحات الصحافية خلال الأسبوع الماضي الصادرة عن القوى السياسية والحزبية بمسمياتها كافة سواء تلك التي لها وزن كبير في الشارع أو تلك التي لا تضم سوى أعضاء مكاتبها السياسية أو المنتفعين والمتلطين بقوى كبيرة حول قضايا مثل الاستيطان والاعتداءات الإسرائيلية والتهدئة والمصالحة وقانون القومية الإسرائيلية العنصري، والأوضاع الاقتصادية والداخلية... لوجدناها بالعشرات إن لم تكن بالمئات.
جميعنا يتناول قضايانا المصيرية من خلال صياغة خطاب ثوري منفعل تجاه قضية من القضايا ويرسله عن طريق الإيميل أو وسائل التواصل الاجتماعي إلى آلاف العناوين، ولكن عندما تَقرأ هذه البيانات تحسب أن هناك زلزالاً قادماً، وأن الاحتلال يقف أمام أيامه الأخيرة. خطاب مبالغ فيه، غير واقعي، وغير منسجم مع قدرتنا على الفعل والتغيير، خطاب نلاحظ فيه انفصام شخصيتنا، خطاب بالأساس موجه لنا نحن، بمعنى أننا نتحدث إلى أنفسنا.
في خطابنا نصف دولة الاحتلال بالعنصرية، والاستيطان واعتداءات المستوطنين بالإرهاب، ونحذر من حرب دينية جراء اقتحام الأقصى والأماكن الدينية الأخرى، ونؤكد أننا لن نقبل أن تمر قرارات الاحتلال مرور الكرام، وأن قادة الاحتلال سيحاسبون على جرائمهم... ولكن هي مجرد أقوال لا ترقى إلى الأفعال، سرعان ما تختفي في غياهب النسيان.
بعد كل اعتداء فردي أو جماعي من جنود الاحتلال أو المستوطنين، أو هدم منزل أو مصادرة عقار سواء في القدس المحتلة أو غيرها، أو بعد الإعلان عن بناء استيطاني... نبدأ التأكيد في بياناتنا أننا سنتوجه إلى محكمة الجنايات الدولية.
في كل مناسبة يخرج مسؤول من الدرجة الثلاثين أو مسؤول من الدرجة الأولى ويتحفنا مثلاً بتصريح حول التوجه للجنائية الدولية، وكأن هذه المحكمة لجنة "تعبانة" في جامعة الدولة العربية،
حتى لم يعد مستغرباً أن تصريحاتنا بالتوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية أصبحت تعد بالآلاف.
في استطلاع سريع لتصريحات وبيانات صدرت الأسبوع الماضي نجد أنها مجرد حبر على ورق وكلام في الهواء بصرف النظر عن أهمية الجهة المصدرة.
في المقابل، فإن الاحتلال لا يصدر بيانات صحافية، بل ينفذ ويخلق سياسة أمر واقع... عندما يقول سنقيم مستوطنة جديدة تكون أساسات هذه المستوطنة قد ارتفعت... وعندما يقول إنه سيتم ترحيل سكان الخان الأحمر، فإنه يبني وحدات سكنية وحتى مدرسة ويخصص مساحة من الأرض في منطقة بعيدة في محاولة لتغطية جريمته. وعندما يقول إن من حق اليهود اقتحام الأقصى فإنه يترجم ذلك على الأرض حتى تصبح الاقتحامات اليومية أمراً واقعاً. وعندما يقول سنغير المناهج الفلسطينية في مدارس القدس فإنه يعمل بكل قوة على ذلك، حتى تبدأ المدارس في تطبيق المنهاج الإسرائيلي بالإغراءات المادية تارة لضعاف النفوس وبالتهديد تارة أخرى.
عندما تريد دولة الاحتلال شرعنة اعتداءاتها بصرف النظر عن مسمياتها، فإنها تصادق على القوانين بأسرع وقت ممكن، فقد لا يستغرق إقرار مشروع قانون بقراءاته الثلاث أكثر من شهر أحياناً وقد يستغرق أكثر من ذلك بكثير، ولكن في النهاية هناك قوننة تهدف إلى تكريس سياسة الاحتلال وتوسيع الفجوة العنصرية بين المجموع اليهودي و(الآخر) أي الفلسطيني.
عندما يتعرض مستوطن للطعن أو القتل حتى لو في حادث مروري تقام في اليوم نفسه بؤرة استيطانية في المكان نفسه لتتحول فيما بعد إلى مستوطنة، هذه سياسة الأمر الواقع.
سلطات الاحتلال تخنق قطاع غزة. تفتح المعابر التي تمر عبرها الأغذية والأدوية، وتغلقها بالطريقة التي تريدها وحسب مزاجها، ودليل على ذلك إغلاق معبر كرم أبو سالم وإعادة فتحه "مؤخراً" بطريقة القطارة، إذن هذه سياسة الأمر الواقع.. هذه السياسة التي غيرت شكل فلسطين التاريخية ديمغرافياً وجغرافياً وثقافياً، بحيث أصبحنا أقلية منقسمة على ذاتها، تقاتل بعضها بالسلاح والبيانات دون خطوط حمر أو غيرها.
ربما يقول البعض، إن المواطن ملّ من البيانات الفارغة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية... وإننا بحاجة إلى سياسة أمر واقع شبيهة بتلك التي يخلقها الاحتلال.
بكل مرارة فإن سياسة البيانات الصحافية تسببت منذ العام 1920 وحتى اليوم في ضياع فلسطين ونكبة الشعب الفلسطيني. فهل نتعلم من الأعداء؟!
[email protected]
[email protected]
أضف تعليق