قبل أيام من إعلان البيت الأبيض إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب استعداده للقاء الرئيس الإيراني حسن روحاني، دون شروط مسبقة، في إشارة إلى ما جرى بينه وبين الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، في وقت سابق من هذا العام، وكأن ترامب الذي منذ دخل البيت الأبيض وهو يثير المشاكل الدولية، ويرفع من وتيرة التوتر في غير مكان من هذا العالم، يرغب في أن يبدو كرجل دولة حقيقي عاقل ومتعقل، يقوم بعمل ما يلزم من أجل مصلحة بلاده أولاً ومن ثم من أجل السلام العالمي.
تقديرات المراقبين والمتابعين تشير إلى أن لقاء محتملاً بين رئيسي إيران والولايات المتحدة، يمكن أن يحدث بعد نحو شهر ونصف الشهر من الآن، أي على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة، الذي عادة ما يحضره رؤساء الدول، ويجرون على هامشه اللقاءات الثنائية مع من يرغبون من قادة العالم.
ورغم أن الطلب الأميركي بلقاء الرئيس حسن روحاني لم يكن الأول، بل إنه حسب ما أعلنه مدير مكتب الرئيس الإيراني، فإن واشنطن قد طلبت لقاء روحاني ثماني مرات من قبل، إلا أن إعلانه هذه المرة، خاصة بعد إعلان واشنطن انسحابها من الاتفاق حول ملف إيران النووي، ومن ثم العودة إلى فرض العقوبات الاقتصادية على الدولة الإسلامية الشرق أوسطية، يمنح الخبر أهمية خاصة واهتماماً خاصاً بالطبع، أقل ما يمكن أن يقال فيه: إنه محاولة من واشنطن لأن يشكل اللقاء اعترافاً إيرانياً، أو إقراراً بالإجراء الأميركي، وإنه في حال شملت العقوبات على إيران منعها من تصدير النفط، أو فرض "تقنين" عليه كما سبق وفعلت قبل عقود مع العراق، فقد تشتعل حرب إقليمية طاحنة، بعد تهديد إيران بأنها إذا منعت من تصدير النفط فإنها ستغلق مضيق هرمز، أي ستمنع خروج كل نفط الخليج من الشرق الأوسط إلى العالم، خاصة أوروبا.
المهم أننا نريد القول هنا: إن الظرف الذي يحدث فيه التفاوض بين طرفين، يحدد إلى حدود بعيدة مآله ومصيره، ولا يكفي مجرد أن يجلس طرفان إلى طاولة التفاوض، وفن إدارة التفاوض، يبدأ قبل إجرائه، وكثير من المفاوضين رفضوا الدخول في حوار مع الطرف الآخر حين يكونون في موقف ضعيف، خشية أن تكون نتيجة التفاوض هي تقديم التنازل الذي يصعب لاحقاً تعويضه أو التراجع عنه.
ومن لا يزال يذكر كيف بدأ التحضير إلى مؤتمر مدريد بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، يذكر أو عليه أن يتذكر كيف أن جيمس بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك، قد جاء إلى الشرق الأوسط نحو خمس عشرة مرة، لحل معضلة التمثيل الفلسطيني في المؤتمر، حيث حاول يومها إسحق شامير رئيس الحكومة الإسرائيلية ألا يكون هناك تمثيل فلسطيني، ثم بعد وقت وبعض تهديد أميركي أيامها بوقف قرض تجاوز العشرة مليارات دولار، وافقت إسرائيل على أن صيغة وفد أردني - فلسطيني مشترك يضم فلسطينيين من الضفة والقطاع، فكانت معركة تمثيل الفلسطينيين معركة تفاوضية حقيقية انتهت بأن شقّ الوفد الفلسطيني المستقل طريقه في واشنطن برئاسة الراحل حيدر عبد الشافي.
أيامها حاول الأميركيون بالنيابة عن الإسرائيليين بالطبع، إلزام الراحل فيصل الحسيني رئيس الطاقم التفاوضي، بأن يعلن عدم علاقته بـ م ت ف، لكنه رفض، وكانت إسرائيل تصر على أن يظهر الوفد الفلسطيني ممثلاً لما كانت تدعوه "بسكان المناطق" أي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. وذلك لسبب معروف تماماً، وهو أن يغلق مساراً تفاوضياً كهذا قبل أن ينطلق البحث في ملفات عودة اللاجئين، وفي جعل من م ت ف العضو المراقب في ذلك الوقت بالأمم المتحدة، صاحبة حق تمثيل الجانب الفلسطيني، بما يفرض على إسرائيل قبول أن يتطرق الحوار للبحث في إقامة الدولة المستقلة، في حين كان التفاوض مع "سكان المناطق" سيجعل من القضية الفلسطينية مثار التفاوض قضية إسرائيلية داخلية، لن يخرج الحوار حولها، عن التوصل إلى نتيجة جوهرها الحكم الذاتي، محسناً أو معدلاً، ضعيفاً أو قوياً، حسب قدرة الطرفين المتفاوضين.
منذ الفصل التفاوضي الأهم بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي الذي بدأ بتوقيع إعلان المبادئ في أوسلو، ولم يتوقف رسمياً إلا عام 2014، كان الانقسام الفلسطيني الداخلي أهم "منجز إسرائيلي" على الإطلاق، ورغم أن المحاولات الفلسطينية لوضع حد له، قد بدأت بعد أشهر قليلة من وقوعه، أي في أواخر العام 2007، إلا أن محاولات إسرائيل للحفاظ عليه وإبقائه استمرت حتى اللحظة، وهي كلما رأت "حماس" و"فتح" تقتربان من وضع حد له، تتدخل عن بعد، إن كان بشن حرب على غزة، أو بإغراء "حماس" بعقد صفقة تبادل أسرى، أو بالضغط من تحت الطاولة على جهات لها علاقة بالسلطة، وإسرائيل كانت تمني النفس بأن ترى حكمي "فتح" في الضفة و"حماس" في غزة "كيانين منفصلين" في آخر المطاف.
لكن إسرائيل التي تدرك أن السلطة شرعية وتجمع بين م ت ف الممثل الشرعي والوحيد على الصعيد الخارجي العربي والدولي للشعب الفلسطيني، لا شك في أنها تتجنب أن تظل هي الطرف المفاوض مقابلها، فيما لم تنجح محاولتها للتفاوض مع "حماس" إلا عبر الوسطاء وفي ملفات تبادل الأسرى وعقد التهدئة أو الهدنة العسكرية فقط.
الآن الموضوع مختلف، فالسلطة ترفض العودة للتفاوض في ظل الرعاية الأميركية الوحيدة، وأميركا وإسرائيل بحاجة إلى طرف فلسطيني يفاوض من أجل القول: إن حل الملف جار على قدم وساق، و"حماس" تريد أن تخرج من العزلة والحصار، لذا فإن فتح الباب أمام التفاوض عبر الوسيط الدولي أولاً وهذا أمر مختلف عن المرات السابقة، ثم في جانب آخر عبر تبادل الأسرى، ثم عبر حل، إنساني أو سياسي، تحت عنوان كسر الحصار، لا بد أن ينتهي بالبحث في إقامة كيان غزة المستقل، وعلاقته مع جيرانه، خاصة إسرائيل، حيث يمكن له أن يعقد هدنة واتفاق حسن جوار معها، وهكذا فإن تفاوض "حماس" دون أن تمثل م ت ف لن ينتهي الأمر بأكثر من أنها تمثل غزة فقط، ولن يتناول التفاوض أي ملف خاص لا بالقدس ولا باللاجئين ولا بالاحتلال.
[email protected]
أضف تعليق