حيث إن الوضع الإنساني في قطاع غزة، لا يحتمل، وشاذ جداً، ولأن الحالة الفلسطينية تراوح مكانها منذ وقت، ولأن حالة الإقليم على كف عفريت، ولأن أيضاً وأيضاً السياسة لا تعرف الفراغ، فإنه يمكن القول: إنه مع اتساع الفجوة بين جناحي الوطن منذ منتصف آذار الماضي - حيث إن جملة الإجراءات التي اتخذتها حكومة التوافق الوطني، قد أظهرت أن السلطة المركزية قد رفعت يدها إلى حد كبير عن المسؤولية عن قطاع غزة - فإن هذا الفراغ السياسي الذي كانت تشغله السلطة، سرعان ما أوحى للآخرين بالتحرك من أجل ملئه، أو من أجل البحث عن حل، ليس بالضرورة أن يستند على تحقيق المصالحة أو أن يشترط إنهاء الانقسام، الذي طال انتظاره على أي حال، بل وحتى لا يتطلب بالضرورة المرور عبر السلطة المركزية.
رأينا كيف أن واشنطن بعد أن أُغلقت الأبواب في وجه صفقتها الصفيقة، قبل أن تعلنها، فكرت في الدخول من هذا الباب، ثم كيف أن إسرائيل وقد سخّنت مع "حماس" جبهة القطاع مجدداً، وبالتحديد تماماً بعد أسبوعين من انغلاق ملف المصالحة، لإنضاج صفقة قد تبدأ بالحديث عن الهدنة أو تبادل الأسرى، ثم قد تنتهي بحل مشكلة الحصار لقطاع غزة، دون الاتفاق مع السلطة المركزية في رام الله.
لإغلاق هذه الأبواب تحركت القاهرة، التي تدرك أن أفضل حل لمشكلة حصار غزة هو إغلاق ملف الانقسام، وأظهرت مصر إصراراً وصبراً كبيرين من أجل هذا، وهي تضغط هنا وتضغط هناك، وتفتح المعبر، حتى تبقى الأمور دون الانفجار الانتحاري، ومصر تفعل هذا لأكثر من اعتبار بالطبع، منه ما له علاقة بمكانة مصر الإقليمية وكذلك علاقتها الجيوسياسية بفلسطين، ومنه ما له علاقة آنية ذات طابع أمني، فمن الواضح أن "التخفيف عن قطاع غزة" يبعد مخاطر أمنية تلقي بظلالها المباشرة على كل من إسرائيل ومصر، كذلك فإن التخفيف من ظروف قسوة الحياة داخل قطاع غزة، يخفف الضغط عن الأمم المتحدة، حيث كان مثال تسريح موظفي بند الطوارئ خير مثال على ما نقول.
يبدو أن واسطة العقد أو الرابط بين الولوج المصري للملف الفلسطيني من بوابة المصالحة، والتدخل الإسرائيلي من خلال مدخل تبادل الأسرى، قد وجد ضالته في المبادرة الأممية التي يتحدث عنها منذ وقت المبعوث الأممي للشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف، حيث ربط المراقبون بين سفر وفد حركة "فتح" للقاهرة بدعوى حمله الرد الفلسطيني على المقترح المصري الأخير، وبين وصول ملادينوف للعاصمة المصرية.
وحتى تكتمل الصورة، فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، اجتمع مع بعض وزرائه في جلسة مغلقة، حيث أخبرهم بوجود مبادرة لترتيبات سياسية في قطاع غزة، بمعرفة إسرائيل ومصر وجهات دولية مثل الأمم المتحدة.
أما عن بنود المبادرة التي لم يكشف أحد بعد عن تفاصيلها، فتشمل وقفاً كاملاً لإطلاق النار بين قطاع غزة وإسرائيل، بما يعني الاقتراب من صفقة هدنة أو حتى فتح الباب لصفقة تبادل الأسرى. ثم إعادة تأهيل البنى التحتية الحيوية والحرجة في قطاع غزة، بما يعني تخفيف معاناة البشر، وتخفيف الضغط الداخلي الذي ينذر بالخطر على جميع الأطراف، ثم عودة السلطة إلى قطاع غزة.
وهذا التسلسل يعني أن وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل عبر اتفاق مضمون من قبل مصر والأمم المتحدة، كذلك الشروع في ترميم البنية التحتية للخدمات، لا يعني انتظار الانتهاء من ملف المصالحة، وأن مصالح مصر وإسرائيل والأمم المتحدة، لا يمكنها أن تنتظر ضغط السلطة على "حماس" حتى يأتي أكله، بقبول "حماس" بكامل الشروط التي وضعتها السلطة على طاولة الملف، منذ منتصف آذار الماضي، حيث من الأفضل للسلطة أن تقبل بما يمكن تحقيقه الآن، لأن من شأن رفضها أن يجبر الآخرين على المضي دونها، حيث تبدو الورقة المصرية معقولة بها الخصوص.
لذا فإن مصدراً فتحاوياً أشار إلى أن رد الحركة كان إيجابياً على الورقة المصرية مع بعض الملاحظات، فيما أكد مصدر مصري أن الرد تضمن موافقة صريحة مع عدد من الملاحظات.
وهذا يعني أن الورقة المصرية مع بعض التعديلات التي لا تمس جوهرها، من جهة، ومبادرة ملادينوف، مع تعديل، نزع عنها الطابع الإنساني البحت الذي قوبل برفض كل القوى الفلسطينية، وأدخل عليها تعديلات ذات طابع سياسي، بحيث صارت مبادرة إنسانية_سياسية، قد وجدت الطريق إلى الواقع.
وما لم تحدث انتكاسة غير متوقعة، فإن الأمور تسير في اتجاه حلحلة الأمور المحيطة بقطاع غزة، من جهة علاقته بالسلطة وإسرائيل وانعكاس ذلك داخلياً، بما في ذلك معبر رفح، حيث إن رعاية الأمم المتحدة ستظهر في متابعة توفير الخدمات، ورعاية مصر ستعني استمرار فتح معبر رفح.
بذلك يمكن القول: إن الجهد المصري، مترافقاً مع الجهد الأممي، قد بدأ في نزع الفتيل عن عنق قطاع غزة، فيما المضي إلى آفاق الحياة الطبيعية للقطاع مرهون بالإرادة الفلسطينية الداخلية، لكن قبل ذلك لا بد من القول: شكراً جزيلاً لمصر ولملادينوف، وبعد ذلك يمكن لأهل غزة أن يبدؤوا بإطلاق بالونات الفرح الملونة في سماء القطاع، لربما تكون بديلاً عن البالونات الحارقة وعن طائرات القتل في آن واحد معاً.
[email protected]
أضف تعليق