بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يعلق الفلسطينيون عامةً وسكان قطاع غزة خاصةً الكثير من الآمال على مسيرة العودة الكبرى، ويأملون فيها أن تكون بوابة الأمل ومفتاح الفرج، والسبيل الناجع لرفع الحصار وإنهاء العقوبات، واستعادة الحرية وتحقيق الوحدة الوطنية بين الأطراف الفلسطينية المختلفة، ويرون أنها بصيصُ أملٍ جادٍ في مسيرة المقاومة، ووسيلةٌ نضالية جديدة، يجمع عليها الفلسطينيون ويتوحدون من أجلها، وتتلاشى اختلافاتهم أمامها، فهي شكلٌ عليه يتوافقون، وأسلوبٌ له قد يطورون.
لهذا بات الفلسطينيون يرغبون أن تبقى المسيرة سلمية مدنية شعبية، لا مقاومة عنفية فيها، ولا عمليات عسكرية تتخللها، ولا استفزازات قاسية تخرجها عن سمتها، ولا اشتباكاتٍ مع قوات الاحتلال خلالها تجهضها، أو تغير صورتها، أو تحرفها عن مضمونها وتضفي عليها صفة المواجهة العسكرية، فيفقد الفلسطينيون وجهها الشعبي وطبيعتها السلمية وتفوقها المدني، ويكون حينها للعدو لدى دول العالم مبررٌ شرعي أو قانوني لضربها، والقضاء عليها في مهدها، وخنقها في بداياتها، ومنعها من الاستمرار في أحلامها الكبيرة.
ولهذا فإنهم يتمسكون بها ويحرصون عليها ويخشون من فشلها، ولا يريدون أن يخسروها، ولا أن يحبطوا أو تضيع جهودهم ودماء شهدائهم فيها هباءً، بل يريدون لها النجاح الكامل، وأن تؤتي ثمارها المرجوة، وأن تحقق الأهداف المنشودة منها، ولهم في ذلك في انتفاضة الحجارة الأولى أبلغ مثال وأفضل نموذج.
فقد استطاعت انتفاضة الحجارة الأولى التي اندلعت شرارتها صبيحة يوم الثامن من ديسمبر/كانون أول عام 1987، أن تصمد لأكثر من خمسة سنواتٍ متتالية، عجز فيها العدو الإسرائيلي لولا المفاوضات السرية والحوارات الخفية، عن وضع حدٍ لها، أو إطفاء جذوتها وإنهاء فعالياتها، رغم أنه سجن واعتقل عشرات آلاف الفلسطينيين، وقتل آلافاً آخرين، وكانت قواته حينها في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكنه رغم قواته الكبيرة وعتاده الخطير، إلا أن حجارة الأطفال، وشعبية المواجهة، منعته من استخدام قوته المفرطة في مواجهة الفلسطينيين، الذين اقتصرت عملياتهم على الحجر والسكين، وعلى المدية والفأس، وغيرها من الأدوات البدائية التي لا تشكل خطراً على أكثر من مستوطنٍ واحدٍ.
يرى الفلسطينيون أن الفرصة أمامهم سانحة، وقدرتهم على الثبات والصمود رغم الحصار والظروف الصعبة كبيرة، فلا ينبغي أن تضيع منهم هذه الفرصة، ولا أن تفلت من بين أيديهم هذه السانحة، حتى ولو أتيحت لهم أهدافٌ إسرائيلية سهلة ومغرية، فلن ينجرفوا إلى ما يريده العدو منهم، ولن يعطوا السيف الذي به يقتلهم، خاصةً في ظل حالة التردي العربي الكبيرة، والانهيارات المتوالية في الأنظمة والحكومات، وتوالي الاختراقات الصهيونية وتلاشي جدران الممانعة والمقاطعة العربية، وبداية مواسم الهجرة العربية الرسمية إلى إسرائيل، والاعتراف بها وتقديم أوراق الاعتماد إليها.
وعليه ينبغي الحفاظ على سلمية المقاومة، ومدنية المسيرات، وعدم القيام بأي أعمالٍ عسكرية، كإلقاء القنابل وإطلاق الأعيرة النارية، أو إطلاق الصواريخ والقيام بعمليات تسللٍ واشتباكٍ خلف خطوط النار، أو وراء السياج الفاصل، والإبقاء على هذا الشكل من المواجهات التي تخلو من العنف، وتحافظ على شكل المقاومة الشعبية التي لا يقوى أحدٌ على إدانتها، ولا تستطيع جهة التنديد بها أو التشكيك في جوهرها.
ولعل المقاومة الشعبية السلمية كانت مطلب بعض الجهات الرسمية في السلطة الفلسطينية، وفي الطليعة منهم الرئيس محمود عباس الذي كان ينادي بالمقاومة السلمية، والأنشطة الشعبية والفعاليات المدنية، وهل أن مسيرة العودة الكبرى شيئاً غير هذا، أو فيها ما يخالف ذلك ويناقضه.
هذه المسيرة قد تمنع العدو الإسرائيلي تماماً كما الانتفاضة الأولى من استخدام ترسانته العسكرية، وطائراته المقاتلة، ودباباته الحديثة، وسيجد نفسه مضطراً لأن يحيد أغلب قطاعاته العسكرية، في مواجهة شبانٍ وشاباتٍ، وشيوخٍ وأطفالٍ، وأسرٍ وعائلاتٍ، أتت من كل مكان، لا تحمل معها أدواتٍ للقتال ولا وسائل للمقاومة، اللهم إلا بعض المؤن والقليل من الطعام أو الشراب مما يقيم أودهم، ويمكنهم من الصبر على الجوع، والبقاء لساعاتٍ طويلةٍ على السياج في مواجهة جنود الاحتلال.
وقد كان للقيادة الموحدة وعمليات التنسيق بينها وبين حركتي حماس والجهاد الإسلامي، دورٌ كبير في ديمومة الانتفاضة واستمرارها، وفي انتظام فعالياتها والتفاف المواطنين حولها، والتحاق الشبان بها في مختلف أجهزتها، كالسواعد الرامية، والكتبة على الجدران، وموزعي البيانات، والقائمين على الخدمة والمؤونة، والمتطوعين في سلك التعليم بعد أن أغلقت الجامعات والمدارس، والعاملين في الأطقم الطبية والمراكز الصحية، وقد كان للأطر القيادية الموحدة للفصائل دورٌ واضحٌ وكبير في استمرار الأحداث وتطورها، والتي ما كان لأحدٍ أن يتنبأ بها أو يتوقعها، ولكنها فاجأت الجميع واستمرت، وأدهشت العالم وصمدت، وأصبحت وما زالت أيقونة المقاومة ورمز النضال الشعبي، تحتذي بها الشعوب، وتتعلم منها الأمم.
أما التضامن الشعبي والتماسك المجتمعي فقد كان هو عنوان الانتفاضة الأول وشعارها الأقوى، الذي مكنها من الصمود والثبات، وأعطاها الفرصة للتواصل والتطور، فقد اتحدت قوى الشعب الفلسطيني وفصائله، وتضامن أهله، والتحم مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، أهلُنا في الأرض المحتلة عام 1948، الذين ما غابوا عن النصرة، ولا امتنعوا عن تقديم العون والمساعدة، بل كانت قوافلهم الغذائية لا تتوقف، ومساعداتهم اليومية لا تنقطع، وكذا شعبنا الفلسطيني في دول اللجوء والشتات، فقد أبدعوا في فنون التضامن وأشكال المناصرة، وكانت لهم فعالياتٌ وطنيةٌ في كافة أرجاء العالم، ساندت الانتفاضة وقوتها، ومنحتها نفساً قوياً وروحاً جديدة.
أما الأمة العربية والإسلامية، فقد كانت خير حاضنةٍ للانتفاضة، وأفضل مرجعٍ حنونٍ لها، تحدب عليها وترعاها، وتدعمها وتصونها، وتتنافس في إسنادها ومد يد العون إليها، وأصبحت رموز الانتفاضة في الدول العربية والإسلامية أيقوناتٍ قومية، ومناراتٍ للأمة يقدرونها ويبجلونها، ويرونها تمثلهم وتعبر عنهم، وتتحدث باسمهم وتقاوم بالنيابة عنهم.
مسيرة العودة الكبرى تكاد تشبه الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي نجحت بالعوامل التي ذكرت وغيرها، وصمدت بما توفر لها وقدم إليها، فإذا أردنا لهذه المسيرة أن تستمر وتنجح، وأن تقطف ثمارها وتحصد جنى ما زرعت، فإن عليها أن تهتدي بالملحمة التي سبقت، وأن تقرأ الصفحة المضيئة التي مضت، فإن فيها علامات فوزٍ وبشائر نصرٍ وأمارات صحةٍ وسلامةٍ، فهلم بنا نقتفي آثارها ونتعلم منها، ونضيف إليها ونحسن فيها، ونجعل مسيرتنا الوطنية لكبرى نقلةً نوعيةً، وصفحةً نضاليةً جديدةً.
[email protected]
أضف تعليق