آثرنا أن نتريّث قليلاً بعد ما اعتبره كل المسلمين أنه قرار صادِم من الرئيس الأميركي ترامب عندما اعترف بالقدس بشقيّها الشرقي والغربي عاصمة موحّدة للكيان الصهيوني، وقراره بنقل سفارته إلى القدس من تل أبيب، نقول آثرنا التريّث في الكتابة عن ترامب وقراره بعد أن كتب الكثيرون مندّدين بالقرار، ومعبّرين عن الصدمة الغريبة والسخط العربي الإسلامي، وكل العالم تقريباً، خاصة من الدول الأوروبية التي يتوقّع الكيان الصهيوني أن تحذو حذو أميركا بعد أن تمتصّ صدمة القرار الترامبي الصهيوني، على أننا لم نندهش ولم نتعجّب من القرار الامبريالي الأميركي، لسببين رئيسيين، الأول أن القدس والمسجد الأقصى وكل فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني بالفعل منذ عام 1948، والثاني أن الولايات المتحدة تعترف في الواقع بأحقيّة إسرائيل بكل فلسطين ، وتعتبرها أرضاً تاريخية لقبائل إسرائيل التي رحلت عنها لتعود إليها عبر الأصولية المسيحية الصهيونية، لم يشذّ رئيس أميركي عن دعم الدولة العبرية، وكل رئيس يأتي يفوق سابقه، في منظومة استعمارية متجدّدة، وفي طريق السعي لنشر الفتنة، وجعل الدول العربية تتفتّت لخدمة المشروع الشرق أوسطي الجديد.
ولذا يزول العجب عندما نقرأ القرار بكل تداعياته السلبية، والتي تكرّر مذبحة وإبادة البيض الأوربيين ضد شعب الهنود الأميركيين وهو ما تكرّره الإدارات الأميركية|الأوروبية، منذ تأسيس الكيان الصهيوني وحتى اليوم، وإذا كانت بريطانيا قد احتفلت بمرور مائة عام على إصدارها وعد بلفور عام 1917، فإن ترامب قرّر بعد المائة عام أن يعطي وعداً وتنفيذاً لا يملكه لمن لا يستحقه، كل هذه مقدمّة لابدّ منها، لتزول من عندنا لواعج الألم والدهشة معاً.
ولكن الذي يدهشنا ويحزننا ويمسّ كرامتنا العربية والإسلامية هو ما تقوم به بعض الأنظمة العربية في خدمة القرار الصهيوني|الأميركي، ولنا أن نعلم جيداً أن ترامب في دعايته الانتخابية أعلن عن عزمه الاعتراف بالقدس عاصمة موحّدة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأميركية إليها، ولكنه تريّث كثيراً بعد أن حذّره جهاز المخابرات المركزية السي آي أيه، وعندما توالت فضائحه الانتخابية، فعاد لقراره بعد أن استطلع آراء بعض الأنظمة العربية، الخليجية ككل، وخصوصاً الدولة السعودية، وهنا بدأ التفكير في تنفيذ قراره علناً وعلى الملأ من دون خوف من أيّ رد فعل عربي أو دولي أو مجلس أمن المنظمة الدولية للأمم المتحدة، فالسعودية في سبيلها لمواجهة إيران تحاول بكل جهد أن تجعل الصراع طائفياً، بين سنّة وشيعة، فتخوض حروباً كلها خاسرة ضد إيران، التي لم يصدر عنها أبداً أي تهديد للسعودية أو غير السعودية، بل تطلب حواراً بينها وبين دول الخليج، ولكن السعودية تريد استبدال العدو ليكون إيران بدلاً من إسرائيل، وهو ما لعبت عليه الدولة الأميركية، لكي تأخذ موافقة أكبر دولة سنّية تشرف على أقدس بقاع المسلمين، لحل المشكلة الفلسطينية من خلال ما أُعلن أنه مشروع القرن، وهو مشروع عبثي تموّله السعودية لتخدم به الكيان الصهيوني، من أجل تثبيت الأسرة السعودية في الحكم، وأن يكون بن سلمان ونسله من بعده ، هم الحكّام المستقبليون للمملكة السعودية، وما هو مُعلن أن ترامب اتصل بابن سلمان قبل يوم من إعلان قراره.
لقد نشرت وكالة بلومبرج الأميركية تقريراً في شهر نيسان/أبريل الماضي 2017 أشارت فيه إلى محادثات سرّية أجراها صهر ترامب "جاريد كوشنر" بهدف إبرام اتفاق تاريخي يتضمّن إنشاء اقليم فلسطيني يموّله عدد من البلدان العربية الخليجية، كما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في شهر حزيران/يونيو 2017 بعضاً من تفاصيل هذه الدولة، أهمها إقامة عاصمة الدولة الفلسطينية خارج مدينة القدس الشريف، وذلك في ضاحية أو بلدة «أبوديس»، التي تقع شرق مدينة القدس، وقد فصلت إسرائيل بين بلدة أبوديس ومدينة القدس بالجدار العازل، وأقامت مستوطنة «معاليه أدوميم» على مساحة واسعة من أراضيها الشرقية، فاقت مساحة بلدتي أبوديس وبلدة العزيزية المجاورة لها، كما تضمّن مشروع صفقة القرن أيضاً بنداً لا يقلّ خطورة عن بند التنازل عن القدس الشرقية، وهو بند ينصّ على عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم مرة أخرى، وهو أمر يهدم حتى مبادرة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في بيروت في العام 2002، والتي تروّج للأرض مقابل السلام، وهو ما لم تقبله أو تنفّذه أصلاً الدولة الصهيونية، أي أن التنازل التدريجي يقود الحكومات العربية لتناسي القضية الفلسطينية برمّتها، هذا بالإضافة للانشغال العربي بحروب دموية بين بعضها البعض أو داخل كل دولة تذكيها المخابرات الإمبريالية الصهيونية، ولكل ذلك قام ترامب بخطوته الخطيرة، رغم أنها كانت متوقّعة.
ولذلك كله حاولت الحكومة الأميركية الضغط بشكل مباشر وعن طريق بعض الأطراف العربية على الرئيس الفلسطيني لقبول بنود صفقة القرن، ورفض الأخير التنازل عن القدس الشرقية، وقامت حركة فتح بإعادة نشر خطاب قديم للرئيس عباس، يتحدّث فيه عن بلدة أبوديس كبديل للقدس، قال فيه: «إن القدس ليست أبوديس، ولكن أبوديس جزء من القدس، وكلامنا مفهوم لأننا نسمع كلاماً كثيراً عن العاصمة»، ورغم ذلك قام وليّ العهد السعودي محمّد بن سلمان بأخذ رأي أبو مازن للموافقة على أبو ديس، لتكون العاصمة الفلسطينية، ومن خلال التمويل السعودي، يمكن توسيعها وبناء مساكن عليها، ويمكن للفلسطينيين تسميتها بالقدس الفلسطينية أو القدس الجديدة، وهو ما رفضه أبو مازن، وهو ما جعل بن سلمان يغضب من أبومازن، ثم يوافق على القرار الأميركي سرّاً، فقد خشي ردّة الفعل العربية والسعودية، بعد أن دفع خمسمائة مليار دولار في زيارة ترامب للسعودية في شهر أيار/مايو 2017.
هذا ما حدث، وهو غيض من فيض في منطقة عربية موبوءة بالفاشية الوهّابية الإرهابية، المتحالفة مع الغرب الامبريالي الصهيوني، لكل ذلك نعتقد أن الأمل في تغيير أميركا لقرار ترامب نوع من الخيال، ولكن الأمل الحقيقي هو في عودة الوعي الشعبي العربي والإسلامي، وعودة المقاومة، ومحور المقاومة من جديد، وهو ما نراه قد بدأ، وروح المقاومة والغضب الساطع وحدهما لا يجبران أميركا على سحب قرارها فقط، بل يساهمان في تحرير الأرض الفلسطينية كلها والمهم هو كشف المتحالفين مع الأعداء دائماً، أملنا في خيار المقاومة بعد الأمل في الله بطبيعة الحال..
[email protected]
أضف تعليق