بخلاف ما يشاع عنها وما توحي بعض تجلياتها فإن السياسة فكرة نبيلة قوامها تعاون الناس في عمل جماعي لخدمة مصالح عامة عليا. لذا لم ولن يصبح نكث العهود يوما أمرا شرعيا مهما تكرر وفي السياسة بالذات. حتى لو غلف أحيانا بـ " الشطارة " يبقى عدم احترام الاتفاق من قبل طرفيه كذبا ولا نقول " خيانة " لشريكه وللسياسة ولنا جميعا بالتالي. في الماضي شهدت السياسة العربية في البلاد " مسلسلا تركيا " من اتفاقات التناوب بين سياسيين أو بين أحزابهم،يعتبر سجلا برلمانيا أسود.
اغتيال أبو ربيعة
في 1981 انتهى خلاف حول تناوب بجريمة قتل عضو الكنيست من النقب حماد أبو ربيعة على يد بعض أبناء زميله الراحل جبر الداهش معدي. وقتها تشكلت القائمة العربية الموحدة(قائمة سلطوية تدور بفلك " مباي " ) برئاسة سيف الدين الزعبي (فازت بمقعد واحد) الذي احترم اتفاق التناوب واستقال من الكنيست التاسعة في 03.04.1979 بعد عامين على انتخابها ودخل أبو ربيعة مكانه وبالاتفاق بأن يستقيل بعد عام لصالح جبر داهش معدي.
ولما رفض أبو ربيعة تعرض لاغتيال وهو خارج من فندق الملك داوود في القدس. أدين بعض أبناء معدي بالقتل ودخلوا السجن فيما دخل هو الكنيست بدلا من أبو ربيعة لكنها " فرحة ما تمت " فبعد خمسة شهور تم حل البرلمان مثلما يلوح بالأفق اليوم شبح الانتخابات نتيجة أسباب شتى. وتوال نكث العهود( مكتوبة/ شفهية وبعضها شابه عدم الوضوح) بين أحزاب وساسة في دورات برلمانية سابقة .
أنا النقب والنقب أنا
وبعد انتخابات الكنيست الثانية عشرة عام 1992 نكث طلب الصانع وعده لمحمد زيدان(أبو فيصل) بالاستقالة والتناوب على مقعد برلماني بالمناصفة. وقتها تم توحيد " المستقلين " مع الحزب الديموقراطي العربي بوساطة الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي انتدب عشية توقيع أوسلو، محمود عباس أبو مازن مسؤولا عن ملف الانتخابات البرلمانية وتعاون مع رئيس لجنة الوفاق مع الراحل إبراهيم نمر حسين والذي فشل في إقناع محمد ميعاري بالانضمام لقائمة مشتركة رغم ضغوط كبيرة شهده لقاء في القاهرة.
" أنا ممثل النقب الوحيد" في الكنيست تذرع الصانع وما لبث أن أنكر الاتفاق من أصله تلتها محاولة من الحزب الديموقراطي العربي لـ " تعويض زيدان " براتب يوازي راتب نائب وغرفة في فندق " هيات " في القدس مقر إقامة الكثير من النواب،طيلة فترة الاستحقاق. محمد زيدان رفض العروض رغم خسارته المالية واضطراره لبيع أرض في سهل البطوف لتمويل حملته الانتخابية ضمن قائمة " المستقلين". كذلك بضغط من الراحل ياسر عرفات الذي عمل جاهدا لاستثمار قوة الفلسطينيين في إسرائيل الانتخابية لدعم حكومة العمل أملا بتطبيق اتفاق أوسلو وهو أيضا نكثت إسرائيل وعوده بتطبيقه حتى بعد بدء رئاسة " حمامة السلام " شمعون بيرس عقب اغتيال رابين في 1995. واضطر محمد زيدان للقبول بـ " صلحة عشائرية " بعد انتخابه رئيس للمتابعة العليا في 1998 ومن أجل قطع الطريق على فتنة كادت تقع على نمط أبو ربيعة.
"قنطار مسك في ذقنك يا أبونا !
وفي انتخابات 1996 شارك التجمع الوطني بالانتخابات ضمن قائمة مشتركة مع الجبهة( عزمي بشارة بالمكان الرابع وواصل طه بالمكان السادس) وكان يفترض أن يستقيل الشيوعي الراحل أحمد سعد من المقعد الخامس لواصل طه عن التجمع. وقتها قال سعد لي ضمن حديث صحفي ( صحيفة كل العرب)معللا عدم استعداده للاستقالة بالتذكير بتضحياته بالقول إنه عايش طفولة قاسية وكطفل لعائلة مهجرة من البروة يذكر كيف كان يذهب للمدرسة حافيا. وبعد شهور من موعد الاستحقاق انتخب طه رئيسا لمجلس كفركنا وسامح سعد .. بل سقطت حكومة نتنياهو الأولى وجرت انتخابات جديدة في 1999. غير أن تلك الدورة البرلمانية شهدت فصل مشابه رفض فيه عباس زكور التنازل عن مقعده لزميله في الحركة الإسلامية سلمان أبو أحمد ضمن اتفاق تناوب داخلي،وصل التقاضي به للمحكمة العليا وسط حرج شديد. ودارت الأيام،كما تقول الست، وشرب عباس زكور من كأس الحنظل ذاتها حينما انفصل عن حركته وانضم للتجمع الوطني في انتخابات 2009 ورفض سعيد نفاع التنازل عن مقعده لزكور في نهاية 2010 مما أحدث حالة فوضى أججّت خلافات قائمة في التجمع انتهت بإبعاد نفاع عن صفوفه. وقتها ساق نفاع جملة مزاعم لتعليل نكثه الاتفاق في بيان قال فيه:" كان مصلّ كلما التقى الخوري يحييه بـ "قنطار مسك في ذقنك يا أبونا" فيجيبه الخوري "بارك الله فيك يا إبني" وتكرر الأمر كثيرا فما كان من الخوري إلا أن قال له: " يا إبني ذقني يكفيها من المسك القليل فالكثرة مش لله فما غرضك ؟
ربما يدفع هذا السجل التاريخي الأسود لإعادة النظر بفكرة التناوب بيد أنه لا يبرر تكرار فضائح انتهاك الاتفاقات اليوم لعدة أسباب أهمها أبسطها ومفاده أن الاتفاقات ينبغي أن تحترم. إذا حسنت النوايا واستبعدت الحسابات الشخصية والفئوية لصالح المصلحة الكبرى للمجتمع العربي في البلاد المتمثلة بالقائمة المشتركة سيكون تطبيق اتفاق التناوب أمرا سهلا وطبيعيا جدا. الاتفاق بين مركبات المشتركة وهو اتفاق سياسي – أخلاقي بين أحزاب على محاصصة بين مركباته وليس اتفاقا قضائيا يخضع لتأويلات المحامين والمفسرين، يوجب التعامل معه بلغة الشركاء السياسيين لا لغة المحامين.
الشقيقة الكبرى
بصرف النظر عن استقالة باسل غطاس( الخلاف قائم حتى لو بقي غطاس في الكنيست) وعن وجود أو فقدان بند في اتفاق التناوب يعالج موضوع المرشحين " في الانتظار " ممن ينبغي أن يسقطوا أسماءهم من سجل مرشحي المشتركة بعد المقعد الرابع عشر، هناك اتفاق جوهري واضح على التناوب. يتوقع من الجبهة أن تتحمل مسؤولية أبوية لأنها شريكة بالاتفاق ولكونها الشقيقة البكر للأحزاب العربية في البلاد ولأنها تقود المشتركة والمتابعة معا فعلى قدر الصلاحية تأتي المسؤولية. من غير المعقول أن تكتفي بالقول إنها ملتزمة بالاتفاق حرفيا وأن تبادر لما هو إجرائي ومباشر من خلال استقالة النائب عبد الله أبو معروف والادعاء أنها غير ملزمة قانونيا باستقالة مرشحها ضمن القائمة يوسف العطاونة(المكان الـ 17). هناك اتفاق مبدأي على التناوب وهذا هو الجوهر أما بقية الإجراءات فهي تفاصيل إجرائية. وهذا ينطبق على الحركة العربية للتغيير أيضا فالزعم بأنها تحترم الاتفاق كرزمة واحدة والبحث فورا عن تفاصيل أخرى تعيق تطبيقه أمر مرفوض ولن يقبل به المجتمع العربي. النائب أسامة السعدي ورغم قصر مدته عمل بنجاح ومثابرة كالكثير من زملائه لكن ذلك لا يعفيه هو ورئيس حركته النائب أحمد الطيبي من احترام اتفاق التناوب وتيسير عملية استحقاق المحاصصة من خلال استقالة السعدي وشطب زميله في قائمة الانتظار وائل يونس(المكان الـ 18).
الحديث عن ضرورة بقاء أسامة السعدي وعبد الله أبو معروف في الكنيست لأن الأول نشيط والثاني لأنه الممثل الوحيد لبني معروف لن يقبله من كان برأسه نصف عقل وضمير. الحل يكون باستقالتهما معا بنفس اليوم(كي لا يحدث ما يذكر بواقعة التحكيم بين معاوية والأشعري) وباستقالة من هم بالانتظار لتتاح فرصة دخول صاحبا الاستحقاق نفين أبو رحمون وسعيد الخرومي لا سيما أن الاتفاق هو بين كتل لا بين أشخاص.
مقولة باولو كويلو
بخلاف تجارب الأحزاب المذكورة فإن الإخلال باتفاق لجنة الوفاق سيقود لتدمير المشتركة والمساس بمصداقية من تسبب بانهيارها لأن المجتمع العربي سيرى بذلك خللا أخلاقيا، مسا به وبمصلحة عليا لا بمصلحة حزب فحسب. لذا فإن مجرد استمرار هذا النزيف اليوم سينال من هيبة ومصداقية لا المشتركة ومركباتها فحسب بل السياسة العربية كافتها وسيقود لما هو أخطر على شكل مزيد من العزوف عن السياسية وعن التصويت أو العودة لـ "ميرتس " و" المعسكر الصهيوني " وغيره. وسيخرج خاسرا بالتأكيد كل من يسعى لاستغلال هذه الأزمة لفرط عقد المشتركة لحسابات خاصة وغريبة وربما ترتبط بجهات أخرى محلية أو إقليمية. نقول ذلك لأن ميزان الربح والخسارة أيضا يدفع لهذا الاستنتاج إذ من غير المعقول أن يتم الاقتتال على نيابة لم يتبق منها سوى شهور فقط فالانتخابات أقرب بكثير من موعدها الرسمي المحدد. هذا ببساطة لأن الشعب يعرف بغرباله الفطري من المسؤول وسيحاسب لاسيما أنه سيتوفر من سيطرح البدائل للمشتركة بقائمة جديدة،غير حزبية ربما. وبحال استمر السجال الراهن بعد موعد الاستحقاق(17.07.2017) يعني الدخول بطريق اللاعودة من هذه الناحية وتصبح محاولات تحسين صورة المشتركة كمحاولة تحلية البحر الميت بمعلقة سكر. هناك وقت للتمزيق وهناك أوقات للترقيع،يقول باولو كويلو في روايته الظريفة " الزهير"،وهذا هو الوقت للحفاظ على سلامة المشتركة حتى تأخذ مداها وفرصتها وكي تكون القيادة قدوة للجمهور الواسع الذي سيقدر ويكافأ من يفي بالعهود.
[email protected]
أضف تعليق