أي متابع لأداء تنظيم داعش ونشاطه منذ سيطرته على الموصل قبل ثلاث سنوات يدرك أن هذا التنظيم كان آيلا إلى الانهيار العسكري ما لم تطرأ على أيديولوجيته السياسية مرونة لأنها بدت عدمية انتحارية قائمة على القتل من أجل القتل.
التنظيم الذي استغل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها المجتمع العراقي، وحالات الفراغ العميقة التي خلقتها الطبقة السياسية حول كيفية إدارة البلاد وتقاسم مواردها وحول طبيعة الدستور وكيفية تطبيقه وموقع العراق من صراع المحاور القائمة في المنطقة لم يطرح خلال السنوات التي حكم فيها مساحة واسعة من العراق مشروعاً ملائماً لحل الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع العراقي، ولا متناسباً مع طبيعة وظروف العصر الحديث لذلك فتح النار في كل الاتجاهات، ومارس شتى أنواع الظلم والاستبداد والإقصاء الديني والمذهبي وأعاد قوانين العبودية والرّق التي عفا عليها الزمن.
ومع تحرير الموصل عاصمة خلافة البغدادي، نستطيع القول إن مشروع انهيار داعش عسكرياً في العراق بدأ فعلياً، لكنّ شوط طويل ما زال قائماً أمام انهياره أيديولوجياً وتنظيمياً. الذي انهار من داعش هو مشروع الدولة التي أقامها وسعى إلى إيجادها. ومشروع الخلافة التي أعلنها البغدادي وسعى إلى حمايتها وتمددها تعتبر آخر مرحلة من مراحل تطبيق الأيديولوجيا، ودليل عملي على صدقية تحقيقها وإمكانية نقلها من فضاء التنظير إلى حيّز التطبيق على الأرض. وفِي هذه المرحلة من الأطروحة، يكثر الأتباع وتتعمق وتصقل الأيديولوجيا، وينخرط كوادر جدد.
وتسبق المرحلة الأخيرة (إعلان الخلافة)، مرحلة الإمساك بالأرض وإقامة إمارة عليها. ولم يكن داعش بدعاً في هذا، فقد سبقته جماعات وتنظيمات ارتبطت بالقاعدة وخرجت من رحم السلفية الجهادية نجحت في الإمساك بالأرض لسنوات وأعلنت الإمارة الإسلامية عليها في الشيشان والصومال ومالي وقاربت على إعلان الإمارة في أماكن أخرى من العالم (ليبيا، سيناء مصر، الفلبين، نيجيريا،..) إلا أن كل تلك التجارب باءت بالفشل لأسباب بعضها خارجية واغلبها داخلية. أما الأسباب الخارجية فهي محاربة النظم المجاورة بالتعاون مع القوى الدولية في العالم والمجتمع الدولي لوجود إمارات إسلامية معادية لمن حولها، في حين تبلورت الأسباب الداخلية في عجز الأيديولوجيا القاعدية في ترجمة ذاتها وتحقيق أهدافها على أرض الواقع بطريقة تحقق لها النجاح وتضمن ولاء المجتمع المحكوم بين يديها، الأمر الذي يعكس حقيقة الخلل في هذه الأطروحة، وضياع الطاقات الهائلة للشباب المسلم في مشاريع عبثية عدمية.
من المبكر القول حالياً إن التنظيم انتهى وجودياً في العراق وانه سينتهي قريباً في سوريا. ومن المراهنة الجزم بأنه سيتجه نحو الجزيرة العربية، مع التأكيد أن من أبرز أهداف التنظيم في الأساس هو الوصول إلى بلاد الحرمين الأمر الذي يمنحه الشرعية الدينية الكاملة، ويسمح له بإعادة اكتساب جزءاً من الحاضنة السنية أو كسب تعاطفها. لكنّ المؤكّد من بين كل هذه التكهنات في استشراف السيناريوهات المستقبلية هو أن تنظيم الدولة لم يعد قادراً على طرح مشروع الخلافة من جديد وان كان من غير المستبعد إعلانه عدد من الإمارات في مناطق أخرى من العالم يقل فيها التكاتف الدولي على مواجهته. كما أن دعايته الضخمة قد تضررت بشكل كبير جداً وسيترك ذلك أثراً بالغاً في المناطق التي ينشط فيها في شمال إفريقيا ومناطق أخرى إلاّ أن الضرر اللاحق به سيكون في صالح تنظيم القاعدة من حيث الانتشار. هذا مع التأكيد انه قد تخرج من رحم داعش جماعات جديدة اقل عدداً وأكثر راديكالية، تماماً كما حصل في مصر مع جماعة المسلمون بقيادة شكري مصطفى في الستينيات.
ربما انهيار داعش عسكرياً في العراق قد أخّر أو أضعف سيناريو التقسيم أو إعادة رسم الشرق الأوسط من جديد، وإن كنت لست من المتحمسين لمثل هذا الاستنتاج، إلا انه في المستطاع القول: إن انهيار التنظيم لن يصب جميعه ولا أغلبه في صالح الدولة العميقة ومشروعها في العالم العربي، ولن يعيد لها ما فقدته من هيبة وحجّة دعائية اجتماعية، بل سيكون مكسباً حقيقياً لتنظيم القاعدة الذي يقف مع تنظيم داعش على نفس الأرضية الأيديولوجية ويختلف معه على كيفية تنزيلها على أرض الواقع طالما أن الأيديولوجيا لم تنهزم بعد. وهذا يعني أن "القاعدة" ستعيد ترتيب أوضاعها من جديد، ودراسة الظروف الأسباب والعوامل التي أدّت إلى خروج داعش من رحمها، ومحاولة كسب الشرعية في المجتمعات التي تستهدفه.
والدراس لسير التنظيمات الجهادية القتالية عبر تاريخها، يجد أنها تعتمد استراتيجية الإمساك بالأرض واتخاذها منطلقاً للتمدد نحو مناطق أخرى لتوسيع حكمها وحمايته في آن متى ما كانت قادرة على حفظ أمن واستقرار عاصمتها. وحين تعجز عن الإمساك بالأرض تذهب إلى السيناريو البديل وهو الضرب هيبة الدولة ومحاولة تدميرها في أعين المواطنين عبر استغلال التناقضات السياسية والفرغات الأمنية للقيام بتفجيرات تخلق الغضب في نفوس الناس تجاه النظام العاجز عن حمايتهم أو المسبب لمأساتهم ما يهيئ الأجواء لخلق تمرد شعبي أو ثورة مسلحة ينتهي مساره مؤدلجاً خلف مشروع القاعدة الأكثر تنظيماً في حالات الاختلالات الأمنية في المجتمعات.
وبما أن مشروع خلافة داعش بدأ يتهاوى، فالراجح أن يعود التنظيم إلى اعتماد استراتيجية القاعدة في المواجهة أي التراجع إلى المرحلة "النكاية" بعد فشل "التمكين" فيعمد إلى تشكيل خلايا عنقودية تعمل تحت الأرض وثم قد ينتقل تستغل حالات الفراغ والثغرات الأمنية لتضرب بقوة من خلال إعداد الكمائن، وضرب المؤسسات والمراكز الأمنية، واستهداف المصالح العامة في الأماكن التي يستطيع الوجود فيها أو الوصول إليها وهذه المرحلة في الحقيقة هي من أخطر المراحل التي تعيشها الدولة في فترة ما قبل القضاء النهائي والمبرم على الإرهاب.
وفي تقديري أن المواجهة العسكرية والعمليات الأمنية الجراحية الدقيقة أمر بالغ الأهمية في مواجهة التنظيم امنياً لكنها ليست الأسلوب الأنجع في تفتيت الأيديولوجية التي تعمل على تشكيل كوادر وخلايا نخبوية عصية على التفتيت، ثم خلق بيئة حاضنة والتمدد في داخلها. لذا فإن المناعة الداخلية للمجتمع العراقي هي السبيل الوحيد لقطع الطريق على هذا التنظيم من العودة من جديد. وهذه المناعة تقوى حين يكون هناك توافق مجتمعي وتوزيع عادل لموارد الدولة، ومساواة كاملة في الحقوق والواجبات والفرص السياسية بين مختلف أطياف الشعب العراقي.
وإذا كانت مواجهة خطر داعش عامل ساهم في جمع المكونات العراقية السياسية رغم التناقضات العميقة بينها، فإن تحرير الموصل قد يكون ساهم في إعادة كشف هذه التناقضات وإبرازها للوجود ما لم تسع الكتل السياسية إلى تحقيق توافق حقيقي يحول دون التأزم السيسي والإقصاء.
[email protected]
أضف تعليق