أفرجت إسرائيل عن عدد هائل من الوثائق التي تؤرخ لحرب "الأيام الستة" حرب حزيران بعد انقضاء نصف قرن عليها، وتفرغ عدد من الباحثين للنبش بين سطور هذه الوثائق ودراسة الصور والاستماع إلى النقاشات التي دارت على مختلف المستويات العسكرية والسياسية في إسرائيل قبل وأثناء وبعد تلك الحرب، ورغم أن هناك العديد من الاستخلاصات المتباينة والاستنتاجات القابلة للنقاش والاختلاف، إلاّ أن هناك العديد من الملاحظات التي أمكن إيجاد توافقات أكثر بين مختلف الذين اجتهدوا في دراسة هذه الوثائق.
أولى هذه الملاحظات، أن هذه الحرب كانت تريدها إسرائيل وتسعى إليها بكل قوة بعد فشل أهداف الحرب السابقة عام 1956، أهداف تتعلق برؤية القيادة الإسرائيلية في ذلك الوقت، تتلخص في أن تجري أية حرب قادمة خارج حدود الدولة العبرية، ميدان الحرب القادمة حول هذه الحدود وخارج محيطها ما أمكن، على إسرائيل أن تنقل ميدان الحروب إلى داخل الحدود العربية، الظروف السياسية أثناء حرب 1956 لم توفر إمكانية الوصول إلى هذه الأهداف بفضل الموقف الأميركي آنذاك.
لم تقم تلك الحرب عام 1967 لأن العرب كانوا يهدفون إلى القذف بإسرائيل في البحر، لأن الدولة العبرية كانت تدرك تماماً أن هذه "الرغبة" حتى لو تحكمت في الشعارات العربية آنذاك، إلاّ أنها غير قابلة للتحقق بسبب عدم توفر أدواتها.
وبينما كانت الحرب السابقة، عام 1956، تهدف إلى تثبيت أركان الدولة العبرية من خلال تحالفاتها الدولية ذات الطبيعة الاستعمارية مع كل من فرنسا وبريطانيا تحديداً، فإن "حرب الاستقلال الثانية" كما تطلق عليها إسرائيل، حرب عام 1967، هي حرب تكرس الدور الإسرائيلي في المنطقة العربية على ضوء الصراعات بين الشرق والغرب، تثبيت إسرائيل بصفتها أداة غربية لخدمة مصالح الولايات المتحدة والغرب عموماً، مصالح ذات أبعاد نفطية بالدرجة الأولى، الرئيس السوفياتي آنذاك، اليكسي كوسيغين دعم الموقف المصري من إغلاق المضايق الذي حدث بوجود السفير السوفياتي في القاهرة، بينما أعلن الرئيس الأميركي ليندون جونسون دعمه لمعارضته إسرائيل لإغلاق المضايق، وفي تلك الساعات تم وضع حجر الأساس لانطلاق الحرب من قبل إسرائيل، ويقال إن الخطط كانت بالأدراج، وتم وضع اللمسات الأخيرة عليها، ابتداءً من الثاني من حزيران إلى الخامس من الشهر، لحظة إعلان الحرب التي أرادتها إسرائيل بكل قوة، بينما كانت مجرد تلويح من قبل القيادة المصرية آنذاك.
وبالفعل، فقد نجحت الاستراتيجية الإسرائيلية بتحقيق الأهداف العملية لهذه الحرب، بعد ستة أعوام، قامت حرب تشرين 1973، ميدان تلك الحرب كانت في الجولان السورية، وسيناء المصرية، مناطق خارج حدود الدولة العبرية، يُقال إن العرب هم من قاموا بهذه الحرب الأخيرة، لكن ما تم استعادته من أراض عربية، لم يكن بفضل الحرب مباشرة، بل وتحقيقاً لهدف إسرائيلي آخر، وهو أن إسرائيل قوية جداً من الناحية العسكرية، من الممكن التوصل إلى اتفاقات معها من خلال الحوار والسلام فقط، حرب 1973، كانت حرباً تحريكية من الناحية السياسية، لذلك فإن التوجه نحو اتفاقيات سلام عربية مع إسرائيل كان أبرز نتائج تلك الحرب التي اعتبرت استكمالاً لحرب عام 1967، هي خاتمة الحروب وبدء اعتراف عربي رسمي مباشر وغير مباشر بـ"الحقيقة الإسرائيلية" التي لا يمكن إنكارها، بنفس القدر الذي تعترف فيه المنظومة العربية بعجزها في هذه المواجهة.
ولعلّ أهم نتائج تلك الحرب، عام 1967، هي تلك المتعلقة بالشعب الفلسطيني، حيث تعززت ثورته بعد أن أدرك أن الاعتماد على النفس بالدرجة الأولى هو الأداة الحقيقية لتحرير الأرض المحتلة، معركة "الكرامة" بعد شهور من الهزيمة كانت الرسالة الأكثر وضوحاً، في هذا الاتجاه، انتصار فلسطيني على خلفية هزيمة عربية، الأمر الذي أكسب الثورة الفلسطينية ذلك الزخم والمد والدعم على المستوى الشعبي العربي والدولي، شكل ضغطاً على النظام العربي الرسمي للوقوف إلى جانب الثورة الفلسطينية، إلاّ أن الحرب اللاحقة، عام 1973، وما تبعها من نتائج تتعلق بتحريك الجهود العربية والإقليمية نحو اتفاقيات سلام، أدت إلى انتكاسة حقيقية لهذه الثورة، التي ما زالت تقاوم نتائج تلك الحروب على اختلاف استهدافاتها!؟
[email protected]
أضف تعليق