تغلغلت رياح الخريف عنوةً بين الشجر، مستغيثة بها لتتركها، لكن دون جدوى، إلى أن سقطت أرضًا بكثافة، لشدّة تحرّش الرّياح الوحشي الذي لم يتوقّف، فحوّلت الشّجر إلى هياكل هشّة... مخلوعة عزيمتها... تناثرت صفائح أوراقها الصفراء من هلعها، بين تراب الفوضى الذي يُعمي العيون. في هذه الأثناء، تمنّيتُ أن تتغلغل صرختي المستميتة بين أغصان بعاد حبيبتي العارية من أوراق اللهفة والاشتياق، ربّما تهتز أرجوحة تفكيرها المعلقة بين عمودَي عنادها الصّلبَين، لكنّ صرختي تاهت في دوّامة الخيبة.
هل حجبتها أسوار كتب ودفاتر الدراسة الجامعيّة؟ أم أنها ترسم مستقبلها على صفحات دفاترها البيضْ؟! أم أحاطتها صور خيالها الجميلة، فراحت تحلم بالوصول إلى كوكب أحلامها، على مركبة آمالها، لتعيش فيه، ومن حولها تُحلّق مجرّات المستقبل البعيدة عنها، التي تخالها جميلة وواعدة، دون أي إدراكٍ منها أنها قد تتفجّر يومًا ما، فوق أرض الماضي المهجورة والمنسيّة، المسكونة بأرواح العتاب.
لشدّة فزَعي من اختفائها، فجأةً بدأت أفكاري تتمادى على تفكيري، قائلةً لي: "ربما اختطفتها عصابة اليأس منكَ، وحجزتها في كهف النّميمة، المليء بخفافيش الدسائس، التي ملأت رأسها بأقاويل ملفّقة، حتّى ضجّتها منك، ونسيتك!!" أيُعقل ذلك؟!! صِرت أتخيّلها جنّيةً تخرج من فانوس الغربة... تقف أمامي مبتسمة الملامح، بلباسها الأبيض وقوامها الغض، الذي لفَتَني منذ أن رأيتها أول مرّة، تارةً أتخيّل قلبي يُسمعني إيقاعات حزينةً كئيبةً، لأن غيابها طال حقًّا، ولم أحظَ برؤيتها... هنا صرنا نتساءل أنا وقلبي: "هل غمرتها عتمة النسيان وأبعدتها عنا!!..."
إن أيامي وليالي عطشى إلى ندى ثغرها العذب ليروي ظمأي، أنتظر لحظة ظهورها لأمتِّع عينيَّ برؤية وجنتيها الحمراوَين كعنقودَي الكرز، وشفتيها المخمليتين كزهرتي برقوق، أمّا عيناها السوداوان، فإنهما تشعان ذكاءً، وشعرها الأسود مُسترسل برهافةٍ فوق كتفيها، كي ترتاح نظراتي في واحة جمالها، بعد جولة بحثي عنها، لكن... ما زال جدار ظنوني شاهقًا بالتساؤلات المريبة.
أتمنى لو أنها ما زالت تتذكّر لقائنا الأول في ملعب الصُّدفة، عندما رمَتني كُرة القدَر في مرماها، لتُشعل ولاّعة الذكرى، فتُضيء شمعة الذكريات. رغم احتجابها عني، سأبقى أحبها، لذلك حطمتُ أغلال الشك القاسية، التي قيّدت حريّة تحرّكي، بحثًا عن مكانها، لكن أين هي بحق الله؟! هل من يعرف سر اختفائها؟! بتلاشيها تلاشى جمال الصيف، واختفت شمسه عنوةً خلف أبواب الخريف، فراحت رياحه المتمردة على جمال الطبيعة، تحطم كؤوس الأزهار التي كانت تُسكِرني بلونها الخمري، تقتلعها من حضن أمّها الأرض.
هل علمت معذبتي ما فعل بي اختفاؤها؟ لمحتُ أيامي تهرب من رزنامة روتيني، حتّى ضجرت من ساعات انتظاري التي تدور حول لحظاتي تمنيت أن أغدو طائرًا، لأهاجر نحو دفء قلبها، فألتقط منه سر اختفائها. لربما هو داخل خدر حبٍ آخر؟ لا، لا أعتقد ذلك... الحب الحقيقي لا يُمكن أن يُحاط بـ "ربما"، بل بكل كلمة ثقة.
هل تستجيب لندائي، وتهب لإنقاذي من بحر الفراق الهائج من أمواج قهري، التي تلاطم أحاسيسي على شاطئ شرودي؟! فإنّي أنتظر هدوء الأمواج، لأركب قارب الإرادة القوية، مُجدّفًا نحو جزيرة منفاها، ربّما تشفع فيَّ هناك...
[email protected]
أضف تعليق